للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل من المجاعة والمرض في آخر عام أربعة وعام خمسة وثمانين. وامتلأت الطرقات بالأموات والأعراب السائلين المصابين بألم الجوع، وانتهبوا الخبز من الباعة واستغاث الناس في دفع الكروب التي اعترضت الأمة. وأعمل المشير غاية وسعه في جلب القمح من الممالك الأجنبية، وفتح فابريكة الخبز، ووزع في كل يوم آلاف الخبز على كل راغب. وتولى المارستان دفن الأموات الغرباء على كثرة أعدادهم وتكاثر ورودهم من سائر ضواحي البلاد بحيث أنه يقضي بياض النهار في قبول الأموات وتجهيزهم ودفنهم. ثم لما حضر إبان الزرع مع قلته في أول صائفة عام خمسة وثمانين أتى عليه الجراد المنتشر حتى اتخذه ذو الفاقة بدلاً عن النعمة، وجمعوه للبيع في الأسواق بعد طبخه في الأفران.

ثم تراجع الأمر ونقهت البلاد شيئاً فشيئاً بعناية الأمير وبذل وسعه في مساعدة ذوي الفاقة وتدارك المجاعة. ولم يزل بعد ذلك يرُمُّ ما تداعى من مباني المملكة، ويتدارك عليها ما بقي، وعندما أخذت المملكة مأخذها لي التراجع إلى كمالها الأول نهض لتدارك ما أبقته الست السنوات في التجهيزات العسكرية، وتدارك خطر المملكة من الديون التي تراكمت على الدولة مع ضعف الدخل في المملكة. وأقام جمعية لضبط ما ترتب على الدولة من الديون وموازنتها بالدخل فجعل كومسيوناً مركباً من الأهالي والأجانب الذين عينهم أرباب الديْن تحت رئاسة خير الدين، وأدخل لتصرفه جميع مداخل الدولة عدا المجبي وبعض مداخيل أخرى أبقاها لإقامة إدارة الدولة وكان انتصاب الكومسيون المالي في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة ست وثمانين ومائتين وألف فضبطت المداخيل وانحصرت الديون في نحو مائتي مليون وتعين لازم فائدتها السنوية: ١٢.٩٣٢.٩٢٥ من الريالات التونسية.

ثم أعمل الرأي في المجبي بالنظر لأحوال الرعية فجعلها خمسة وعشرين ريالاً، وترتفع بالتدريج بخمسة ريالات في كل سنة إلى أن تصل إلى الأربعين ريالاً فتستمر عليها. وكذلك جعل أعشار الفلاحة سبعة مكايل نصفها قمح ونصفها شعير وترتفع بزيادة ويبة في كل سنة إلى أن تصل إلى عشر مكايل أنصافاً بحيث يكون ارتقاء ذلك على حسب ترقي الفلاحة وجعل ذلك منضبطاً بقانون صدر بتاريخ السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة ست وثمانين. ثم أسقط عن كافة من بقيت عليهم بقايا من الأعشار أو القوانين الثلثين منها مراعاة لفاقتهم مدة وجوبها، وأسقط النصف من قانون مراجع الوطن القبلي تنشيطاً للفلاحة وخفف قانون زيتونه وصيره ثمانية نواصر على كل عود، وأقام مجلساً لمحاسبة العمال في سائر الأعمال عما جالت فيه أيديهم من أموال الرعية. وأصدر الأمر العلي برفع ظلامة كل من صودر في شيء من المال أو الدؤاب أو الحبوب، فأقبلت الناس من كل فج وظهر للعيان ما جالت فيه أيدي العمال وانتزع جميعه منهم بدون مبالاة، واستعمل على الساحل مَحمد خزندار لضبط أحواله وضبط ديون أهله التي ارتكبوها في تلك السنوات وأعمال وجوه مع أرباب تلك الديون ففك بذلك أسر أهل الساحل قاطبة. كل هاته الأعمال أجراها في شهر شعبان ورمضان من سنة ست وثمانين استدراكاً لما بقي، فعالج المملكة معالجة الطبيب الحاذق وأعاد عليها شرخ الشباب.

ولما استتم ضبط أحوالها على الوجه الأكمل غير إدارة الدولة فجعل الوزارة الكبرى مركبة من وزارة المال ووزارة العمالة ووزارة الخارجية، ولها النظر على الحرب والبحر، وكان الوزير الأكبر مصطفى خزندار، ووزير الحرب رستم، ووزير البحر مَحمد خزندار، وجعل لمسمى الوزارة الكبرى أربعة أقسام القسم الأول لسياسة المملكة والقسم الثاني للواردين من المتوظفين، والقسم الثالث للنوازل الشخصية، والقسم الرابع لأمور الخارجية، وجميعها تحت رئاسة وزير مباشر. وفي كل قسم مستشار أول فكان الوزير المباشر خير الدين، ومستشار القسم الأول الشيخ محمد العزيز بوعتور باش كاتب، ومستشار القسم الثاني حسين، ومستشار القسم الثالث الشيخ أحمد بن أبي الضياف، ومستشار القسم الرابع النصراني فليكس راف. وكان ذلك في منتصف شوال سنة سبع وثمانين.

<<  <   >  >>