ووقع مثل ذلك في أغلب الزوايا والمكاتب وأصلح سور الحاضرة من عدة جهات وسور صفاقس، كذلك سور بنزرت وسور القيروان، وتجدد سقف جامعها الأعظم الذي هو من وضع الصحابة. وهكذا عمّ الإصلاح سائر جهات المملكة وأصلح أيضاً كثيراً من الأبراج. وأعيد بناء برج حمة قابس بحيث إن نحو ربع المدخول في هاته السنين صرف في الإصلاحات المهمة لإحياء الأوقاف زيادة على إجراء الشعائر على وجهها على مقتضى نصوص المحبسين. ثم إن فاضل الدخل أجريت منه المرتبات المعتبرة الكافية لجميع أهل الخطط الشرعية والمدرسين بالحاضرة وبلدان المملكة البالغة إلى ٢٣٤.٣٢٥ ريالاً فضة في كل سنة تدفع لهم مشاهرة على حسب اختلاف القدر المعين لهم وما يفضل تقام به مصالح عمومية في البلاد، كل ذلك من البر الذي حسناته في صحيفة هذا الأمير أبقاه الله.
وقد عين قشلة طريق سيدي المرجاني فجعلها مكتباً عاماً أوقف عليه أوقافاً لها بال وأجراه على نظام المكاتب الجديدة لتعليم أبناء الأهالي العلوم الدينية واللغوية واللغات الأجنبية والمعارف الإفرنجية من الرياضات وغيرها وجعل لذلك قانوناً اجتمع على ترتيبه أعيان علماء العصر فكان مؤلفاً من اثنين وثمانين فصلاً صدر بتاريخ خامس ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين ففتح المكتب المذكور بعد إتقان تقسيمه وتحسينه وأجرى به مونة الطعام لعموم التلاميذ والكسوة والفراش للمقيمين به خاصة وأقام به معلمين من علماء الحاضرة والترك والإفرنج وظهرت منه نشأة بارعة وحضر بنفسه في موكب امتحانهم السنوي.
وأوقف كتباً كثيرة ملأت ست خزائن جعلها بصدر جامع الزيتونة أواسط سنة إحدى وتسعين. وأعاد ترتيب تلك الخزنة بتحرير أسماء كتبها البالغة نحو عشر آلاف مجلد ووضع أعداداً متوالية على تلك المجلدات بعد تحرير قيمتها التي لم تزل اليد جائلة في إتمامها.
وقد جمع جميع كتب المدارس والجوامع الأُخَر وضمّ إليها كتباً أخرى وجعلها مكتبة عامة بالمحل الذي بناه أبو عبد الله الحفصي بجامع الزيتونة عند صحن الجنائز وخضه بالمطالعة والنسخ هنالك من غير إخراج كتاب إلى خارج المكتبة فكانت المكتبة المذكورة تشتمل على أكثر من ثلاثة آلاف مجلد تحتوي على عشرين فناً من خط اليد الجميل وليس فيها من الكتب المطبوعة أو الرديئة الخط إلاّ ما ندر، وقد عمّ بها النفع للغرباء والمحتاجين بالمطالعة والنسخ اليومي فيها. وجعل بها ثلاثة قيمين تستمر إقامتهم سائر اليوم كله وأجرى عليهم الجرايات الكافية على مقتضى قانون رسمه نجي صدر أزمة المكتبة يحتوي على ستة عشر فصلاً بتاريخ الثاني عشر من ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين.
ووضح ترتيباً قانونياً لتنظيم ديوان الشريعة المطهرة اجتمع على تأليفه شيوخ المجلس الشرعي وتألف من ستين فصلاً أصدره بتاريخ صرفي ثلاثين من ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين. وتعينت به مراسم خطة القضاء ورسوم خطة الإفتاء والأعمال التي يجري عليها الوكلاء والأعوان والخصماء. وجعل يومئذ طابعاً يخص ديوان الشريعة لختم حجج الأحكام الشرعية زيادة على ما كان عينه من كون سائر حجج العدالة لا يصح كتبها إلا بالرقاع المختومة بالختم المسمى بالتانبر منذ ذي الحجة الحرام سنة أربع وثمانين.
ووضع قانوناً لضبط حجج الإشهاد يجري عليه عمل الشهود في الحاضرة وسائر بلدان المملكة، وجعل لجميعهم دفاتر لا تشذ عنها شهادة، كل ذلك بعد إحصاء سائر الشهود، وتعيين الاقتصار على عددهم الموجود، إلى أن يتناقصوا بما دون الحاجة. وعين العدد المحتاج إليه في كل جهة فضبط بالقانون المذكور كيفية تحمل الشهادة وأدائها وقد تألف من ستة عشر فصلاً أصدره بتاريخ موفي ذي القعدة الحرام سنة إحدى وتسعين كل ذلك اعتناء بالمعارف وأربابها ومحافظة على الحقوق الشرعية فكان هو الذي أسس هاته الأساسات المحكمة البناء.