فأما أصغرهم وهو الشيخ محمد فقد ولد سنة ٤٥ خمس وأربعون ونشأ بينيدي والده وتعاطى بعد العلم، وتقدم للإشهاد ثم ظهر له شغف بالصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم واعتكف على دلائل الخيرات ولازم الصالح الشريف الشيخ علي محسن في مبدأ أمره مدّة طويلة، إلى أن اتفق له في بعض الأيام أن كان يقرأ دلائل الخيرات في بيته على عادته فيخرج من فيه نور اتصل عموده بسقف البيت فرأى أن ذلك من آثار الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ثم لازم أستاذه إلى أن ظهرت عليه حال وكرامات في خلوته مع القيام بظائفه الشرعية، وهو اليوم ممن سلم الناس من يده ولسانه مرابط في بيته لا يتجاوز بخروجه قرب الدار، وعليه سيما أهل الأسرار. وأمّا أخوه الشيخ إبراهيم فسياتي له ذكر وأمّا الشيخ محمد المهدي فهو جدي الأقرب وقد ولد سنة ١٢١٦ ست عشرة ومائتين والف وقد أرّخ ولادته عمه أحمد زروق بقوله: [مجزوء الرجز]
بشرى بمولود ورد ... والدهر منه قد سعدْ
أتى الهنا يمناً وقد ... صدّ العناعنا وردّ
أورد في إقباله ... كلّ سرور إذ ورد
أقبل كالغيث على ... محلٍ به الغيظ اتقّد
جاد به الدهر رضى ... من بعد ما لجّ ولدّ
فقلت في تاريخه ... تمّ السرور لولد
وارخه أيضاً بتاريخ ثانٍ وهو قوله: [الكامل]
ولد ابننا الأسمى النجيب محمدٌ ... نجل العلا والفخر والتفخيمِ
في يوم تسع بعد عشرٍ هنّ من ... رمضانَ شهر الله ذي التعظيم
من عام ست بعد عشر قبلها ... مائتان بعد الألف في التتميمِ
ووالدته خديجة بنت قويدر ابن الحاج أحمد بن سليمان اللبّدي حفيد الولي المعروف بالعديسي بن عبيدة قرب الكاف، فوالدة جدي من بيت فضل وصلاح. ونشأ بين يدي والده وعمه فحفظ القرآن العظيم وحفظ المختصر الخليجي، وقرأ العلم الشريف على والده وعمّه والشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد البحري وغيرهم، وتفقه وقدمه الأمير محمود باشا لخطة العدالة غرّة شعبان سنة ١٢٣٢ اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، فاشتغل بالتوثيق.
ولمّا أقام والده ببنزت قدّمه الأمير المذكور إماماً بجامع السويقة من البلد المذكور أواخر جمادى الثانية سنة ١٢٣٤ ارب وثلاثين.
ولمّا رجع إلى تونس جلس للتوثيق حتى صار من عمد الموثقين وسافر مع عمّه شاهداص لقاضي المحلّلة. وتقّدم بعد والده لخطة الكتابة والوكالة على بعض الأوقاف.
وله في الأدب آثار من رقيق الشعر سافر لبلد الكاف مع عاملها أمير الأمراء فرحات قائد الجبيرة فكاتبه صديقه الشيخ الطاهر بن عاشور بما نصّه: [الطويل]
لقد كنت لا أرضى بطيب وصالِ ... فها أنا راضٍ منكمُ بخيالِ
أيا سادة شطّتْ منازل قربهم ... وبانوا فبانَ الصبرُ بعد كمالِ
هجرتم بلا عذر نأيتم بلا رضى ... ضننتم ولو بالكتب والإرسالِ
وإنّي مع بعد الديّار متيّمٌ ... على الودّ لم يأت السلوّ ببالي
أناشد عنكم كلّما لاح بارق ... من الحيّ أو هبّت رياح شمال
أناجي اصفرار الشمس عند غروبها ... أوّد لو أني لأنفاسها تالي
ولمّا نات داري وعزت مطالبي ... تخذتُ كتابي معلّماً بسؤالي
فيا كتب يهنيك السرور بقربه ... بعيشك بلغ لوعتي وملالي
تأدب إذا ما جئت حضرة عزة ... فذاك مقام بالمفاخر عالِ
مقام من تمكن من سماء السعود بالفلك السمى، وحلّ من المفاخر بالحضرة الباهية السمّأن وحاز قصب السبق في ميدان الأدب والبلاغة، ونظم جواهر الألمعية في سلك المودة وصاغه، العلامّة النحرير، الفهامة الشهير المالك القلوب بخلاصة خلته الضارب في مرضاة الأخوة ما في صداقته ومحبته: [الطويل]
ففي كل قلب حبه متمكنٌ ... وفي كل نادٍ ذكره فائحُ النشرِ
من اشتهرت محاسنه اشتهار الشمس دون غمام، وطلعت على الأفق مزاياه طلوع البدر التمام، حتى أشغلني مدحه عن ذكر اسمه، وأكتفى بالتلويح عن التصريح بوسمه: [البسيط]
لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يكفينا