ولازم الإشهاد بعد ذلك، ولما توفي الشيخ علي بن محمد الطويبي قاضي جبل المنار عشية يوم الاثنين قدّم المشير الثالث محمد الصادق باشا باي والدِي المذكور قاضياً بجبل المنار وإماماً وخطيباً بجامع سيدي أبي سعيد الباجي صبيحة يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة ١٢٩٩ تسع وتسعين ومائتين وألف، وقدّمه شاهداً على عموم أوقاف تلك الجهة، وقدنقش في ختمه بيتاً وهو: [الوافر]
لطيفاً في القَضَا باري النُّفوسِ ... بعونك جُدْ لعثمانَ السنوسي
وهو خامس من ولي خطة القضاء بالجبل المذكور وذلك أن أول قضاتِه هو الشريف الشيخ عثمان دمدم وليها بسعاية محمد خوجة كاهية حلق الوادي، وهوالذي أقام ته بجامع المكان منبراً. وبعد وفاة الشيخ عثمان ولي عوضه خطتي القضاء والإمامة الشريف الشيخ علي بن محمد التميمي، وبعد وفاته وليها ولده الشيخ محمد التميمي، ثم استقال، فخلفه صهره الشيخ علي الطويبي سنة ١٢٧٨ ثمان وسبعين ومائتين وألف، والآن صارت إلى والدنا المذكور بسأل الله لنا وله الإعانة على ما يرضيه. وعند ولايته الخطة المذكورة كتب إليّ الأديب البارع الثقة الشيخ الحاج محمد سيالة مهنياً بما نصه: [الكامل]
الفرع مهما طاب أصلاً لم يزل ... يسعى ليحرز ما به الأصل اكتمل
فتراه ذا حزم وعزم ما نَبا ... حَدَّاهما لو كلفا صعب العمل
وبذا يسود وَلاَ يزال إذا ارتقى ... للرتبة العليا لأعلى ينتقل
إذ ذاك يحظى سلكهم بفريدة ... يزداد إشراقاً بها عند الأوَل
فيزان جيد زمانه بفضائل ال ... حَبْرِ الأجَل ابن الأجل ابن الأجل
وبذاك يصبح ثم يمسي داعياً ... لكمالهم بتسلسل لا ينفصل
الفاضل الذي جمع أشتات الفضائل والفواضل، والكامل الذي لا يدرك شأوه مناضل، خلاصة الألبأن والطلع من كنوز المعارف على المخبأ من استعبد حر الكلام بسن اليراع، وشرع حد ذكائه على جيش الفصاحة والبلاغة فأطاع، فاقتحم كل شِعب من شعوب الآداب، واقتفى أثر كل شاردة وضالة من كل فدفد، فأصبح وهو المالك لأزمّة البراعة، وضرب له بالسهم الأكبر من الغنيمة التي هي أشرف بضاعة، كيف لا وهو الذي جد فوجد، وزرع فحصد، وصال فذلّل الحرون الشَّموس، وقال فصيّر سُهَا المسائل كالشُّموس، أعني الأخ الذي طالما تنزهت في رياض آدابه، وعانقت خرائد المعاني بين سطور كتابه، واتخذت من بنات أفكاره أنسي، ولأت من سلسبيل رضا بها كؤوسي، سيدي وأخي الشيخ محمد السنوسي، لا زال بدر سعادته دائم الكمال، محفوظاً بعين عناية ذي الجلال.
أما بعد إهداء ما يليق بمقامكم الأسنى، من التحية الحسنى، فإني قد بشرت بما شنف آذاني وأفعم بالسرور جَناني، من أن الهمام الفاضل واسطة الأمجاد الأفاضل، من شرفت أقدامه قلل المعاني بالفرع، وقلد الدهر بدرر مفاخر أصله والفرع، الجامع بين تليد المجد والطريف ذا الحسب الباذخ والنسب الشريف، فرع الفضلاء الأعلام ووالد نخبة الكرام، المعني بالكلام، والدنا الشيخ سيدي عثمان السنوسي قد شرف ركابه منصب القضاء بجبل المنار، وبشرت بما سينهلّ به سحابه من العدل هاتيك الديار، حملتني كثرة السرور التي تعلمها من غير ذلك ما أبديتها من سكنى الدّر بانيها وإعطاء القوس باريها بعد أن هنات نفسي بنفسي على أن أقدم لكم التهنئة قبل أن تقدمها إليّ وإن كان هذا الفرض قد وجب عليكم قبل أن يجب عليّ، حيث إن حبل المودّة بيننا متين، وصدق المحبة جعلنا توأمين بلامين, مع أنك فزت بقرب الدار من الملاذ المشار إليه، ولكن استواء الحب حكم بسقوط التكليف على ذويه، وحينئذ فهنئتك أيّها الأخ بالرتبة السنية التي أمت رحابكم، وانتهى بها التفتيش على كفء لها إلى أن طرقت بابكم فوجدت من هنئت بقبوله لها وتشبثت بأذيال من يكسوها حلل الفخر والبها فجعلها الله مقرونة باليمين والإقبال، مبشرة بنيل الآمال فاتحة لإدراك ما حازته الأوائل من الرتب السنية والشرف الكامل ورزق من لاذت به الإعانة على الدوام حتى يتوج القضايا بالنقض والإبرام ويبلغ بحسن السيرة وصفاء السريرة المرام. ويشاهد كما شاهد حسن المبدأ حسن الختام, والسلام من ودودكم وحافظ عهودكم الحاج محمد سياله لطف الله بالجميع في ربيع الثاني ١٢٩٩ تسع وتسعين ومائتين وألف.