للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبعد أن أقمت تلك المواسم بين الأهل والإخوان، عاودت الرحيل إلى مدينة القيروان واستعذبت لما وجدت في طريقها من المشقة، إذا هي مدينة وأي مدينة، جمعت مفاخر ثمينة، ناهيك بها مضجع البلوي صاحب الرسول مصحوباً بالشعرات النبوية التي هي أعز المأمول، مع ما ضم ذلك التراب من التابعين وتابعيهم، والأيمة المجتهدين من أعلام الأمة وصالحيهم وعنوان ذلك ما جمعه ابن ناجي في كتابه معالم الإيمان وما استدرك به عليه بعض المتأخرين ممن اجتمعت بهم في ذلك المكان، وما زالت البركات فيها عاكفة، والخيرات على أهلها واكفه إذ ما منهم أحد، إلا وله من لفضل وحسن المعاملة ما لم يقف عند حد، فتلقونا بالترحاب، وأنزلونا منازل الأحباب، حتى حملني حسن إكرامهم وفضل مقامهم على أن أنشأت في مديحهم قصيدة بديعة، ضمنتها ما لقيته في الطريق وما أصبته في تلك الرياض المريعة، وهي قولي: [الخفيف]

طاوي البيد مبسراً غير وإني ... إن توجهت زورة القيروان

باكر السعي نحوها باجتهاد ... لاقتياد المنى بذاك العنان

قد خرجنا لها على حين اضحت ... واكفات الهتون مثل الجمان

نلتقي الريح عاصفاً مثل رعد ... قاصف لم يدع ثبات الجنان

ومحيا غزالة الصبح ورار ... هـ الحيا بالسحاب مثل المصان

فامتطينا عزائماً ذات صدق ... واعتمدنا البعاد عن كل دان

واقتطعنا صعاب ذا اليوم سيرا ... وانتجعنا المبيت عند الأوان

وارتحلنا بقطع ليل تبدى ... بدره نافراً نفور الحسان

إذ يرى في الدجى دلالاً فنلقى ... أعينا للنجوم لاحت دواني

أو يرى يزدهي بحسن فيبدو ... في ميادينه بغير امتنان

يقصد القرب رائماً وصل شمس ... قد توارت بحجيها عن عيان

وإذا ما ارتمى إليها تبدت ... من علا الشرق لا تروم التداني

تقتدي تبهر العقول وتلقي ... في البراري بساطها الخسرواني

فارتفقنا معاً إلى أن رأينا ... من حلى القيروان من خير جاني

فاستنرنا بشمس هدي تبدت ... من حلى ثراها وقال كل ذراني

حبذا حبذا بشمس هدى تبدت ... من ثراها وقال كل ذراني

حبذا حبذا معالم دين الل ... هـ لاحت مجلياً بالتهاني

هذه بلدة تأسسها أص ... حاب خير العباد في كل آن

هذه مركز لولاية والع ... لم ففيها تبدت الخصلتان

فهي مأوى أيمة الدين من أه ... ل القرون الثلاث هل من مدان؟

أهلها قد تأثل الخير فيهم ... فانجلى فضلهم بأقصى المكان

يتلقون وافديهم بيسر ... ملء أجفانهم بملء الجفان

يؤنسون الغريب بالقرب حتى ... يمتلي من ودادهم بالتفاني

إذا تحلوا من المعالي بفخر ... عاد كل بحسنه في افتتان

إن تنادوا إلى صلاة سراعا ... فتراهم في رغبة مع حنان

ورثوا الفضل عن جدود ومازا ... لوا بهم يقتدي بني الثمان

فالصير ائتسى بمن قبله في ... كل مجد فنال خير الأماني

هكذا هكذا المفاخر فيهم ... لم تزل تبتني لهم في العيان

قد تجافوا عن الأناسي حتى ... نزلوا القيروان في صحصحان

أحسنوا الصنع للإله فأضحى ... رزقهم ساعياً لهم كل آن

أرسل الله كل خير إليهم ... مع تنائهم عن البلدان

وكفاهم شرَّاً جوارٌ وهذا ... أعجب الشيء بين أهل الزمان

لن ترى في بلادهم من يهود ... ي ولا الغير من أهيل الهوان

لا ولا تلتقي بها حان خمر ... ما لهم واستقاء بنت الدنان؟

إنما بينهم مشاهد صحب ... وزوايا للأوليا في أمان

أو رجال الهدى فإن رمتهم سل ... عن علاهم معالم الإيمان

مثل سحنون والعبدلي المر ... ضي وحنشر وغيرهم كالعواني

بينهم جامع أقيم على تق ... وى من الله نير الأركان

شاده عقبة الصحابي من قد ... قام للدين ناصراً بالسنان

فاغتدى أول المحاريب في المغ ... رب محرابه فهل من يداني؟

حبذا بينهم مقام المعلّى ... صاحب المصطفى الرفيع الشان

ذا أبو زمعة الذي صحبته ... شعرات الرسول لفي ذا المكان

بلوي أتى المغازي مع الأص ... حاب ذا رام نصرة الإيمان

<<  <   >  >>