حرس الله مجد جناب الهمام الكامل، الثقة العمدة النزيه الفاضل، رضيع لباني المجد والعلم من أيمة كانوا غرة في جبهة الدهر وسليل مشايخ أعلام كانوا أيمة فقهاء عصراً بعد عصر، ألا وهو القدوة النحرير، والعلم الشهير، كريم السجايأن وحميد المزايأن الشهم الأحزم والسري الأفخم، الحبر الشيخ محمد بيرم، رئيس جمعية الأوقاف بالحاضرة المحمية، والمكلف بإدارتها وتعميرها فيها وفي سائر البلاد الإفريقية، وصل الله مجده بمجد من مضى من أسلافه، وبلغه أمانيه بخفايا ألطافه، آمين.
أما بعد إهداء التحية المرضية، المناسبة لكمالاتكم السنية، فمن المقرر المعلوم، أن جامع مدينتنا الأعظم، له فضل السبق على سائر الجوامع الإفريقية والتقدم، فقبلته أول قبلة وضعت للناس بالبلاد الإفريقية، عن الاجتهاد الصحيح بالأدلة الكشفية واليقينيه، اختطه من فضلاء الصحابة الأعيان، أكابر ممن شاهد بدراً وبايع بيعة الرضوان، وعمروه بالعبادة والذكر وتلاوة القرآن وطافوا بأرجائه متضرعين مبتهلين، بالدعاء لمن يعمره من سائر الناس في كل حين، وبسبب ذلك تنافس في تعميره من سلف من الولاة فما منهم من أحد إلا وترك فيه من مآثر كمال اعتنائه به علامات، حتى أكملوه على فخامة أبدعيه، وضخامة لم يعهد مثلها في البلاد الإفريقية، أصلوا دائرة جدرانه على أكمل بناء متين، ودعموا سقوفه بعمد رفيعة جلبوها من أقاصي مصانع القياصرة الأقدمين، يرجون أن يدوم لهم أجر من عبد الله فيه ويجري عليهم ذلك بعد الممات، وأن تعود عليهم بركة دعاء من دعا لمن يعمره من أولئك السادات، وإنه وقع الآن بسقوفه خلل إذ مضى عليها ما يفوق المائة والألف من السنين، حتى خشي سقوط بعض الأماكن منها على المصلين، فاقتضى النظر أن جعل عليه حاجز يحجر من عسى أن يمر أو يصلي تحته من الغافلين، ولم يكن في ريع أوقافه ما يقوم بتجديد بعض سقوفه على ما يليق، لضعف أوقافه عن أن تكون بمثل هذا تطيق، وقد امتلأت المسامع والآذان، وتقرر في الأذهان، حسن إدارتكم بمثل هذا الأمر، وسعيكم فيما يبقي لكم به الدعاء والذكر، ومثابرتكم على تعمير بيوت أذن الله أن ترفع، وتجديد ما دثر منها على الوجه الأرفع، ومثلكم يرجى أن يصرف وجهته إليه، حتى يعمل في ضخامته ومكانته على ما كان عليه، وعن صرف فواضل الأحباس في بعضها بعضاً قيل به حيث لا مندوحة عنه واقتضاه الحال، لا سيم إذا أقيم من صرفه في مثل هذا الجامع العديم المثال.
هذا وإن همة مولانا الوزير الأكبر، ووجهته إلى أعزاز هذا القطر وإحياء ما دثر من معالمه في سالف العصر، ومحبته لاقتفاء آثار السلف الماضين، والجري على منهاج طريقهم الواضح المبين، تقتضي أنكم إذا عرفتموه بما آل إليه أمر هذا الجامع وشرح حاله باللفظ الوجيز الجامع، توجهت وجهته إليه، وصرف قصد اعتنائه بحزمه الذي نشر راية الصيت عليه، أبقاه الله جارياً في أموره على السداد، معانا على التوفيق في كل الآماد ببقاء مجد مولانا السيد المشير، العديم المثال والنظير، محروساً جنابهما ببركة من اختلط هذه البلاد، من الصحابة والتابعين والعلماء والصلحاء والأوتاد.
هذا وإن الفاضل الزكي، اللبيب السميدعي، الحائز من قصبات كمال الأدب أعلاهأن ومن أحاسن الأخلاق أسناهأن الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد السنوسي لما اجتمعت به أطلعته على ما شرحته لكم من حال هذا الجامع، وأريته ما ببعض سقوفه من الخلل الواقع، واطلع على أوقافه واستقصاهأن وعلم ما تحصل من فواضل ريعه وأحصاهأن فظهر له ما لي ظهر حيث تطابق الخبر والمخبر وهو الآن عندنا مشتغل بمأموراته، دائب ليله ونهاره فيما كلف به من مشغولاته، وقد دلتنا أعماله على صنائعكم المحموده، التي أحيت بها الدولة معالم الدين المشهودة، نسأل الله أن يكون في عونه، وهو ولي رعايته وصونه. وحين يرد عليكم ما شرح لكم إن شاء الله في الحال على الوجه الأتم، إذ لا يفي بالشرح في مثل هذا المنزل العلم، ومثلكم من يكتفي به لذلك والله ولي عونكم. والسلام من الفقير إلى ربه تعالى عبده محمد صالح الجودي التميمي خادم العلم الشريف والقضايا الشرعية بمدينة القيروان أحسن الله عاقبة الجميع في صفر الخير من سنة ١٢٩٢ اثنتين وتسعين ومائتين وألف.