إلى من بلغ الآداب المراتب العالية، وتولى في دواوين الإنشاء المناصب السامية، وذاع صيته بالبراعة في جميع الأقطار، واشتهر بالفضائل الغزيرة اشتهار ضوء الشمس في رابعة النهار، حفظه الله وأبقاه، وأدام عليه نعماه، فقد كلف منذ مدة بمعاني الأدب، والوقوف على أسرار لغة العرب، حيث ثبت أنه من أجل المطالب، وأعز المآرب، بل هو أولى ما فوق اللبيب سهم فكره إليه، وأحلى ما دأب في تحصيله والانعكاف عليه، ولم أزل لهجاً بذلك مع غاية الاجتهاد، سالكاً أقوم المسالك في تحصيل المراد، ولا سيما بمطالعة الصحائف الخيرية، والجرائد النشريه، التي كثرت خصوصاً في هذا العصر، وعم نفعها الأنام في كل مصر، بما اشتملت عليه من أخبار المفيدة، والنوادر الفريدة، والنصائح الجمه، والفوائد المهمه، وغير ذلك من المنافع التي يجل إحصاؤها ويعجز قلم البليغ استقصاؤهأن حتى إذا أسعدتني المقادير في ذات يوم، بزيارة حضرة أحمد أفندي العشي مع بعض القوم، تكرم علينا من بعض إحسانه، ومزيد فضله وامتنانه، ببعض صحف الأخيار، المحتوية على محاسن الآثار، فعند المطالعة فيهأن والوقوف على حقائق ظواهرها وخوافيهأن عثرنا على صحيفة الرائد، المشحونة بفرائد الفوائد، وإذا هي روضة فضل ثمرات فنونها يانعه، وحديقة أخبار اشتملت على ما رق من الفوائد النافعة، بل هي مرآة الأحوال، ومرقاة الآمال، وفلك السياسة المشحون، وكنز الكياسة المدفون، قد رصعت من جواهر البديع بمارق وغلأن ورصفت من بدائع الترصيع بما دق وعلأن فضلاً عما زينت به من الضروب الرائقة والأساليب الفائقة كيف لا وهي للأديب الفاضل، والأريب الكامل الذي لا يجاريه في ميدان البراعة مجار، ولا يباريه في حلبة الكمال مبار، حضرة السيد محمد السنوسي حفظه الله وأدام علاه. فحمدت الله سبحان وتعالى حيث وفقني للوقوف على هاته الصحيفة، والتقاط درر ألفاظها الرائقة المنيفة، وكانت قد طالت علي شقة الانتظار مدة، وبلغ الشوق مني لرؤيته حده، فقد ثبت عندي الآن صدق المثل الذي سارت به الركبان، من قول أهل الأدب ليس الخبر كالعيان، فتقبل يا سيدي من مثلي هذه الشهاده، بلغك الله الحسنى وزياده، نعم إني لست ممن يستحق أن ينظر إليه بعين الاعتبار، كما أني لست من فرسان هذا المضمار، غير أني كلفت بأن أكون من المقربين إليك، وإن تعاليت عن أن يكون مثلي من المحسوبين عليك، فبادرت بتحرير نميقتي هذه لجنابك، رجاء أن أحظى بانتظامي في سلك أصحابك، وفقك المولى لما يحبه ويرضاه، والسلام عليك ورحمة الله.
فكاتبته مجيباً عن ذلك بما نصه: أيها البارع الذي بذ في حلبة الإنشأن وتصرف في نفائس الأدب كيف شأن الشهم الفطن، الدراكة لأسرار ما خفي وبطن، صاحب الأخلاق الجميلة، والمكارم الجليلة، الأوحد الذي أجرى من نهر المفاخر سلسبيله، فنال من الفخر كل مقصد ووسيلة، حمى الله منازك، وقارن بالسداد أفكارك.
أما بعد فبينما كنت أنظر في مروج الأدب، وأتخير إليها المدب، حتى وقفت على أزهار رياضهأن وارتشفت سلسبيل حياضهأن إذ ضمخت أرداني بنفخ الطيب، وتتبعت من أحرز من أقداحه المعلى والرقيب، فإذا مسعدات الزمان، قد أتاحت إلي فرائد الجمان، وقلائد العقيان، في طي صحيفة ذات أفنان، بها من كل فاكهة زوجان، فرأيت منها ما ملأ القلب سرورأن والسطور، حبورأن قد تنمق منها بياض الطرس، بحسن سواد النقس، بما تبتهج به النفس، فطوراً كنت أرى ذلك من بقايا الليل في طالعة النهار، وتارة نراه أشبه شيء بدعج العيون الأحوار، على أن أيقظني ما فيها من المعاني الفائقة، والمباني المتناسقة، فأيقنت أنها منحة قد ساعد القديم وتحملت من مهديها نفائس الدرر، فيا من كتاب قد تحمل بنفائس الغرر:[الطويل]
كتاب أتى من مصر يعبق نشره ... وقبل افتضاض الختم قد بان بشره
رأينا به البديع منمقاً ... وعن محض ود قد تكشف سرُّه
وناهيك به من كتاب، يغازل الألباب صاغته قريحة لسان الأمم، وفارس حلبة الطرس والقلم، مجمع الألسن واللغات، ودراكة المعاني بسائر الطرقات:[السريع]