قيل إنه كان في صغره واقفاً عند باب دارهم فمر به الولي الصالح الشيخ علي دبوز وبيده إناء مملوء لبناً فيه رائحة كريهة وعرض عليه شربه فشرب جميعه، ولما دخل وأخبر والده الخبر قال له: ذلك مرادي. وقد قرأ بزاويتهم على الشيخ محمد بن عبد الله "الكبرى وتفسير الجلالين" ونسج في علمه وعمله وإقامة منار الجامع على منوال والده، وظهرت له مكاشفات وأسرار، نقل عن خليفته بالجامع الشيخ عدي العامري أنه خرج معه مرة في زمن الربيع إلى زرع له فأعجبه خصبه فقال الشيخ لخليفته: أما أنا فلا آكل منه فكان عام وفاته. وفيه ختم البخاري دراية بملازمته لذلك في الثلاثة الأشهر المعظمة نقل عنه في يوم ختمه أنه كان كثير الاستظهار بحيث إنه سمع منه في ذلك الدرس عنوان المباحث ب (قلت) كثيراً. وكان خليفته يومئذ في إقامة الخمس والخطبة بجامع الزيتونة الشيخ علي بن محمد العامري وهو شيخ القراء بالجامع وعمدة المدرسين به- رضي الله عنه- وكانت وفاة الإمام أبي بكر البكري بسبب طاعون أصابه فتوفي سنة اثنتين وسبعين بعد الألف وأرف الشيخ محيد الوزير السراج بقوله:[المتقارب]
أبو بكر أحزننا موته ... وكان لدينا رواءَ الأوام
وكان قديماً خديمَ الحديث ... فسار بعزٍّ لدار السلام
[١٠٧٢] ٢٧ [أبو الغيث البكري] وعند ذلك تقدم للإمامة والخطبة ورواية الحديث بجامع الزيتونة أكبر بنيه (الشيخ أبو الغيث بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري) ثالث الأيمة البكريين رضي الله عنهم أجمعين. وكان شجاعاً فاضلاً قليل الكلام عزيز النفس يروي الحديث الشريف بدون دراية بحيث أن تدريس الأيمة للحديث بجامع الزيتونة في الثلاثة الأشهر المفضلة انقطع به، وقد قال الرعيني في تاريخه المؤنس: لم يكن بالديار التونسية من يوم حلّ بها العسكر العثماني من تعاطى الرواية والدراية إلا الإمام العالم الرباني، الشيخ أبو عبد الله محمد تاج العارفين العثماني، سقى الله ثراه من صوب الرحمة والرضوان. وكان مجلسه بالجامع من أجل المجالس وتحضره الأجلاء من أهل العلم وتدور بينهم المباحث الجميلة في العلوم الجليلة، ولا يخلو مجلسه من فوائد في الثلاثة الأشهر رجب وشعبان ورمضان إلى يوم الختم، وهو اليوم السادس والعشرون من رمضان. ثم تلاه ولده العلم الشهير، والعالم النحرير، الشيخ أبو بكر فسار بسيرة والده، وقام بعلم الحديث الشريف أحسن قيام، وشهد له بالدراية علماء الإسلام. فكان في هذا الفن نسيج وحده، وحصل له سر أبيه وبركة جده، إلى أن سار إلى رحمة ربه في سنة ثلاث وتسعين وألف (هكذا ذكر) فتغيرت تلك القاعدة وصارت رواية لا غير، وجرت بها العادة للتبرك، وانقطعت المادة من السير لأن ولديه لم يبلغا مبلغه ولا سعيا سعيه اهـ.
وكان خليفته في إقامة الخمس والجمعة هو خليفة أخيه أعني الشيخ علي العامري هو شيخ المدرسة العنقية، وليها بعد وفاة الشيخ أبي الفضل المسراتي سنة خمس وثمانين وألف، وكان يقرىء بها الكبرى وعند وفاته تقدم خليفة عوضه أكبر ابنيه الشيخ أبو الفضل العامري شيخ القراء أيضاً بعد والده. وبعد وفاته ولي عوضه أخوه الشيخ حسن العامري فلازم إقامة الخمس ومشيخة القراء، وواظب على إقراء التجويد بالجامع، واستفاد منه خلق كثير إذ كان صاحب سجادة القراءة مجيزاً بالجامع والمدرسة المرادية. وقد أخذ عن الشيخ أحمد التدغي، ولازم خدمة الجامع بإقامة الخمس والتلاوة، والإمام أبو الغيث البكري يقيم الجمعة والعيدين ورواية الحديث خاصة.
وعلى عهده جرت واقعة الشيخ حمودة فتاتة وذلك أنه كانت له مودة مع رمضان باي لحسن محاضرته ولطف أدبه ووئوق علمه وكان والده الشيخ محمد فتاتة يومئذ هو صاحب الفتيا بمذهب مالك وبذلك كانت وجاهة ابنه مع علمه عظيمة.