وكان لرمضان باي مغن يحسن ضرب الأرغنو يسمى مزهودا فتمكن بضرب الآلة من نفس سيده وتركه مشتغلاً بالملاهي. وأخذ يتصرف في الدولة وسعى في فصل مودة الشيخ حمودة فتاتة حتى منعه من الدخول إلى باردو، فرجع الشيخ إلى دروسه العلمية بجامع الزيتونة وتصدى لإقراء المختصر الخليلي والهمزية ثم ابتدأ درساً من صحيح البخاري دراية على حين لم يكن بجامع الزيتونة من يقرىء الصحيح دراية وكان راويه يومئذ هو الشيخ محمد زيتونة صاحب حاشية تفسير أبي السعود، فاجتمع على الدرس المذكور خلق كثير بين صلاتي الظهر والعصر وازدحمت عليه الخاصة والعامة حتى اضطر الأبعدون إلى سماع الدرس على حالة القيام ليتمكنوا من مشاهدة الشيخ وطار له بذلك صيت أحسَّ منه مزهود فأرسل إلى الإمام أبى الغيث البكري بأن يمنعه من إقراء درس الحديث بالجامع إذ ربما يؤول به الأمر إلى طلب إمامة الجامع وإن رأى منه عدم الامتثال والتمادي يمتنع من الحضور للصلاة ليكون ذلك سبب بعده عن الجامع فأرسل إليه الإمام البكري بإبطال الدرس فلم يتأخر، ولما رآه جلس إلى درسه خرج من الجامع ولم يقم صلاة العصر ذلك اليوم بجامع الزيتونة. ولما رأى الشيخ حمودة فتاتة صنيع الإمام تنقل بدرسه إلى مسجد سوق البلاط وغص المسجد بالرواة ولم يزد ذلك مزهوداً إلا غماً وحسداً فأغرى به رمضان باي ومنعه من الخروج من داره ولم يكفه ذلك حتى أرسل حرسأ هجموا على دار الشيخ وأخرجوه بترويع أمه وأبيه، وأهله وبنيه، وأوقعوا به ما بلغ به إلى الشهادة، ولاقى من الله الحسنى وزيادة. ولم يشعر بذلك رمضان باي إلا بعد الفوات، وكان ذلك على الدين وأهله من أعظم الحسرات. لكن لم تمض غير أيام، وقد شتت الله شمل مزهود وسيده وأشياعه بعد الالتئام، فدارت عليهم الأيام، والله عزيز ذو انتقام. وحسبك أن والده مفتي الأنام قابل تلك المصيبة بالتوجه إلى سيد الأنام، حيث قال في ذلك المقام: [الطويل]
إليك رسولَ الله وجهت آمالي ... وألقيت ياسُؤلي ببابك أحمالي
وأدعوك يا أعلى النبيئين رتبةً ... أغثني فإني في ضيق وأهوال
أغثني أغثني يا ملاذي وملجئي ... فأنت عمادي في مُقامي وترحالي
ألستَ الذي أرسلتَ للخلق رحمةً ... ويلجأُّ في الضرَّا إلى بابك العالي
ألسْت الذي ما في سواك مؤمل ... وليس بمرجُوٍّ سواك في لأوجالِ
ألست ملاذ الخلق في كل شدة ... وفي كل مكروه ألمَّ وأوبال
فكن ليَ يا خيرَ الأنام وسيلة ... إلى الله كيما أن أبلغ آمالي
ويا رب أنت الله سؤلي وموئلي ... وغايةُ قصدي ليس دونك من والِ
بعينكَ ما قد نالني من مهانة ... وما شفَّني من سوء حال وإذلال
وجئتك مضطراً بقلب به أسى ... ودمع جرى في صفحة الخد هطَّال
فكن لي ولياً وانتصر لي ووالِني ... وجدْ لي بلطف منك ياخير مفضَال
وإن لم تكن لي ناصراً وموالياً ... فمن ذا الذي أرجو لتسديد أحوالي
وخذ ليَ حقي من ظَلوم أصابني ... بسوء وعجل ذاك يارب في الحال
ومزِّقه ياذا البطش كل ممزق ... على الفور يا جبار من غير إمهال
وسلط عليه منك كل بلية ... تعاجله في النفس والأهل والمال
ودمره تدميراً وصيره مثلة ... ذليلاً حقيراً كاسف الذهن والبال
وكدْه وشتت شمله وامحُ ذكره ... وأَحلِلْه في هون وبؤس وإذلال
بجاه أُولي العزم الكرام وفضلهم ... وجملة أصحاب النبي مع الآل
ولما ولي مراد باي ثامن شهر رمضان المعظم سنة عشر ومائة وألف وأرسل من قتل رمضان باي وأحرقه وألقى رماده وأعمل السيف في جميع شيعته كان من جملة أعماله في الحاضرة أنه عزل الإمام أبا الغيث البكري وبعد عزله خرج إلى حج بيت الله الحرام وأتم الحج والزيارة، وتوفي ليلة الخميس الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائة وألف.
٢٨ [علي الرصاع] والذي تقدم لإمامة جامع الزيتونة والخطبة ورواية الحديث به هو المفتي (الشيخ علي بن حميدة الرصاع) حفيد الإمام أبي يحيى الرصاع السابق الذكر.
٢٩ [أبو الحسن البكري] ولما أفضت الدولة إلى إبراهيم الشريف أواسط المحرم الحرام سنة ثلاث