لعمرك ما وجدت لها سلوَّا ... سوى جمع الجواهر من إمام
سراج العلم والتقوى تناهت ... إليه المكرمات بلا اكتتام
إذا ما فكرهُ أبدى مقالاً ... فإن القول ما قالت حذام
إليك الفكر قد اهدى مديحاً ... يقابل بالقبول لدى الكرام
ويرعى الله مجدك كل حين ... دوامَ الدّهرِ من غير انفصام
وأجابه عن هذا التقريظ أخوه الممدوح الشيخ الطيب الرياحي، بقوله: [الوافر]
أناطتْ إذ أماطت باللثامِ ... بأقمار الدُّجى سمةَ احتشام
عقيلةُ فتنةِ الألباب أزرت ... بدائعها بأزهار الكمام
أعيذ جمالها من كل شوب ... معاذ كمالها من كل ذام
شهدت بأنّ منجبها عليٌّ ... عزيزُ المثل ما بين الأنام
وكيف يكون مذموم المساعي ... فتى ينميه قطبُ رحى الكرام
أدام الله طود علاه فينا ... وصانك يا هلالُ إلى التمام
وقد كتب رضي الله عنه في علم النحو حاشية على شرح الفاكهي لقطر ابن هشام، ترزي مباحثها بحسن الابتسام، في ثغور الأيام، وقد سلك فيها أغواراً دقيقة، وأبدع فيها تحقيقه، مع سهولة مأخذها الذي سهل به صعاب المسائل أي تسهيل، وأغنى بالتصريح فيها عن ارتكاب التأويل، فكان بها كشاف أسرار العربية، ورافع أستار المشكلات النحوية، تدل بما أودع فيها على ماله في العلوم من اليد الطولى، والغايات التي نال إليها وصولاً.
وشرح أيضاً الخزرجية في علم العروض، شرحاً قام لذلك بالقدر المفروض، فكان شرحاً وجيزاً بسيطأن بجميع شروح الفن محيطأن مع سهولة تقرير، ولطافة تحرير.
وأما نظمه لمتن ابن آجروم النحوي فهو وغن جمع جميع ما احتوى عليه الأصل من المسائل، وسهل حفظها لكل طالب وسائل، غير أنه فيما أظن من مبادئ نظامه، كما لا يخفى على مطالع كلامه، وإلا فإنه كان آية الله في حسن الإنشاء، يتصرف في النظم والنثر كيف يشأن قد أبدع الآداب، وسبق في حلبتها على الشعراء والكتاب، وشعره أدل دليل على قوة عارضته، التي توقف فرسان اليراعة دون الوصول إلى معارضته.
وقد تحلت ترجمته هنا بعض ببعض ما له من البدائع، المزرية بالكواعب الروائع، التي أخصب بها ربع الأدب، وتجملت بخيرنها صفحات حدود الكتب، وحسبه ما خلده بجمع ولده في ديوان الخطب، الذي يبلغ البليغ به إلى غاية الأرب.
وأما شعره الرائق، ونظامه الفائق، فأحسب أني أول من تصدى لجمعه في كتابي مجمع الدواوين التونسية، فأحصيت منه نحو خمسة كراريس تزري بالحلل السندسية، حوت نحو الألفين من أبياته الفاخرة، التي طمت بها تلك البحور الزاخرة، وهو مبلغ يصلح لأن ينفرد به ديوان شعره، الفائق في سعره، وفي ضمنه من محاضراته ما ترتاح له النفوس، ويقول مطالعه لا عطر بعد عروس.
فمن محاضراته أنه اجتمع في بعض الليالي بشاعر بلد سليمان العالم الشيخ محمد ماضور الأندلسي في بيت صديقه الكاتب محمد المسعودي واتفق في مسامرة تلك الليلية أن أدار القهوة على ذلك الجمع، وسيم لطيف الصنع، وحين دخوله يحمل فناجينها بأنامله، وطلوعه عليهم ببدر أشرق فيه بكامله، أصاب شمعة المجلس الموقودة، فانحنت انحناء من يروم سجوده، إذ رأت منه شمعة الجيد التي لا تقط، ولا تطفأ قط، وأنشد الشيخ محمد ماضور في وصف الحال من لطائف المسامرات فقال: [الرمل]
ليلةٌ قد عظمت بين الليالْ ... فهي في جيد المنى عقد الآلْ
وأرتنا عجباً إذ جمعت ... بين شمس ثم بدر وهلالْ
سعدت إذ أنزلتنا منزل المس ... عودي الشهم المفدى ذي الكمال
وبإبرهيم أبدت منظراً ... هام فيه القلب إذ عز المثال
فارتياحي بالرياحيَّ غدا ... وكذاك السعد بالمسعود (ي) طالْ
ليلة جد بنا الأنسُ بها ... طرباً بين يمين وشمالْ
وأديرت قهوة البنَّ على ... جمعنا يسعى بها بدرُ الكمال
فانحنى الشمع منيباً ساجداً ... سجدة الشكر لهاتيك الخلال
فهو والقهوة والفنجانُ في ... كفه يبدي غريباً في المثال
قمراً قد عصرَ اللّيل على ... صفحةِ الفجرِ ف مَّتْ باحتفال
مزج الحلوَ بمرَّ فكأنْ ... قد أرانا القرب والبعد المطال
يا لها من ليلة قد جمعتْ ... كل أنسٍ وبهاءٍ وكمال