زيتونة المنستيري" رضي الله عنه فلازم دروسه وقرأ عليه معقول العلوم ومنقولها بجامع الزيتونة والمدرسة المرادية حتى عد من فحول العلماء. ولما أراد أستاذه الشيخ (محمد زيتونة) السفر إلى حج بيت الله الحرام سنة أربع وعشرين ومائة وألف اختاره للنيابة عنه في المدرسة المرادية فأقام دروسها، ولما عاد الشيخ من حجته ورجع إلى القيام بوظيفته قدم الأمير "حسين بن علي التركي" تلميذه صاحب الترجمة مدرساً بجامع الزيتونة، وعين له مرتباً من جراية بيت المال فأفاد الطالبين وتخرج عليه كثير منهم. ولما أوقف محمود خزندار أوقاف التدريس بمسجد سيدي معاوية اختاره مدرساً وأجرى له ولطلبته جراية الوقف فنفع هنالك أيضاً. ولما توفي شيخه صبيحة يوم الخميس الخامس من شوال سنة ثمانٍ وثلاثين وألف قدمه المقدس حسين باشا لمشيخة المدرسة المرادية التي بسوق القماش فكان هو ثالث شيوخها إذ أن مراد باي لما أتم بناءها أواخر سنة خمس وثمانين وألف قدم لمشيختها أولاً الشيخ "محمد الغماد" ولما توفي ثاني رمضان سنة ست عشرة ومائة وألف تقدم عوضه الشيخ "محمد زيتونة" بمناظرة جرت عند باب الشفاء بجامع الزيتونة حضرها أمير العصر. ولما توفي تقدم لها صاحب الترجمة بعلمه، وأقرأ بها الدروس التي أفادت العموم وأوضح بها مسالك المنطوق والمفهوم. وانتصب للإشهاد فكان من موثقي عدول المدينة، وانتصب منصبه في الإشهاد ولداه "محمد وأحمد" فكانا أيضاً في العدالة مثل والدهما رضي الله عنهم أجمعين. ثم إن علي باشا قدمه إلى خطة القضاء بالحاضرة فزانها بعلمه وعدله مع كمال عفة وتواضع حتى أنه لما توفي الشيخ أبو الغيث البكري وخلف ولدين صغيرين قدمه الباشا عوضه خطيباً وإماماً وراوياً للحديث بجامع الزيتونة، وخطب على منبره من إنشائه مدة إلى أن صلح للإمامة الشيخ عثمان البكري فارتجع الخطة منه باستحقاق الوراثة من آبائه الكرام وأقام صاحب الترجمة على خطة القضاء، وبث العلم في صدور الرجال. وكان عالماً عفيفاً صالحاً متقشفاً خمولاً قليل الكلام كثير المحاورة في العلم فصيح العبارة حسن التقارير متثبتاً، لا تأخذه في الحق لومة لائم يحضر مجالس الباشا العلمية مع أعيان العلماء.
قيل: إن الباشا المشار إليه ذكر لهم في بعض الليالي حسن معاملته للعلماء وتقريبهم من مجلسه مع ما كانوا يعانونه من الدول السالفة فسكت جميع الحاضرين وبعضهم شكر فضله. أما صاحب الترجمة فلم يتهيب أن قال له: إن ما كان يعانيه العلماء السابقون كان متسبباً عن وقوفهم مع أمرائهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واليوم جميع الحاضرين لا تجد واحداً منهم ينكر عليك ما أنت فاعله. فلم يقدر الأمير على إجابته وتوقع بعض الحاضرين للشيخ ما توقع وزاد الأمير بعد انتهاء المسامرة أن أرسل إلى الشيخ بأن لا يرجع إلى تونس صباحاً فلم يشك الشيوخ فيما توقعوه، لكن من الغد أجزل الباشا صلته وشكره على حسن تنبيهه وأركبه في شريوله للإياب إلى الحاضرة فكانت منقبة جميلة لكل منهما. ولم يزل الشيخ على فضله وفخره في بث العلم ومباشرة القضايا إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة إحدى وستين ومائة وألف عليه رحمة الله.
٣٣ الشيخ عثمان البكري هو الشيخ أبو النور عثمان بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري سابع الأيمة البكريين. لما توفي والده أخذ في اكتساب ما يؤهله للالتحاق بسلقه، فتعلم القرآن العظيم وتصدى لقراءة العلم الشريف على الشيخ "محمد سعادة" ولازم الدروس، لإحياء ما ذوى في أصوله من الغروس، إلى أن برقت على أساريره بروق النجابة، ولاحت غياهب الجهل عن وجهه منجابة، وكاد أن يحيى ما عفا من مراسم بيته الرفيع، ويلتحق بأجداده فيكون زهرة في روض فضلهم المريع. وعند ذلك أعمل الأسباب، وأمل من دهره نيل الآراب، فجرى ذكره بخير عند الباشا، وحسنوا عنده إلحاقه في إمامة الجامع فصيح العبارة حسن التقارير متثبتاً، لا تأخذه في الحق لومة لائم يحضر مجالس الباشا العلمية مع أعيان العلماء.