لم يأت بعده مثله في التجويد الشيخ "حمادة بن الأمين" المتوفى يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة عشرين قال: كنت أتمنى أن نوليه على ختمة جامع الزيتونة غير أن الحياء من الشيخ الصفار منعني من ذلك، ولما تأخر الخليفة الإمام الثاني الشيخ "عمر المحجوب" قاضي الحاضرة من خططه يوم الجمعة التاسع والعشرين من صفر الخير سنة إحدى وعشرين أبقى الأمير الإمام الثالث على خطته، وقدم الشيخ "الطاهر بن مسعودبن أبي بكر اليعسوي كذا الفاروقي" إماماً ثانياً خليفة بجامع الزيتونة رضي الله عنه بعلمه وجلالته وهو عالم العصر، والمفرد العلم في هذا المصر، آية الله في التحصيل والذكاء. ولد بقبيلة أولاد سيدي عيسى من الناحية الغربية في بيت جده سيدي عيسى المذكور بيت العلم والصلاح والفضل من عهد جدهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقدم إلى تونس في طلب العلم ونزل بالمدرسة التوفيقية فقرأ المعقول والمنقول بجامع الزيتونة على الشيخ "صالح الكواش" والشيخ "أحمد بوخريص" والشيخ "محمد الطويبي" والشيخ "حسونة الصباغ" وقرأ "القطب" على الشيخ "حسن الشريف" ونحو ربع المختصر الخليلي على الشيخ "عمر المحجوب". وتصدى لبث العلم بما له من الذكاء والتحصيل والتحرير فانتفع به كثير من الفحول حملة المعقول والمنقول. وتقدم لمشيخة المدرسة السليمانية بعد وفاة شيخها الغرياني وأقرأ بها. وشرَخ الرسالة السمرقندية في علم البيان شرحاً بديعاً تعقب به شروح العصام والملّوي والدمنهوري وسلك فيه مسلك التحقيق، فقاق على سائر شروحها السالفة. وقد كتبت على قطعة منه حواشي. والأمل في الله أن نبلغ المراد في إتمامها على الوجه المأمول رضي الله عنه. وقد استمر الخليفة المذكور على خطته وملازمة بث العلم إلى أن بلغ من العمر نيفاً وستين سنة فأصابه الطاعون في صلاة الصبح بمحراب جامع الزيتونة، وبقي ثلاثة أيام مريضاً وأدركته المنية بعد فراغه من صلاة العصر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من صفر الخير سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف ودفن من الغد جوفي الزلاج، فكان هو رابع إخوته الدفينين بتونس، وهم: الشيخ محمد الكبير، والشيخ العربي، والشيخ العابد، وكلهم علماء قرأوا في بلادهم ولحقوا بأخيهم. وكانت وفاتهم بتونس ولهم ببلدهم أيضاً ثلاثة إخوة أخر، وهم: الشيخ الزين، والشيخ الطيب، والشبخ إبراهيم. وكان أبوهم صالحاً ذا كرامات رضي الله عنهم أجمعين.
أما الإمام البكري صاحب الترجمة فلم يكن له في مدة ولايته من مباشرة خطة الإمامة بجامع الزيتونة إلا حضور جسده في وقت رواية البخاري وخليفتاه من العلماء الأعلام يتداولان الرواية بين يديه واستمر على ذلك إلى أن توفي بسانيتهم بمرناق في الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائتين وألف.
وهو آخر الأيمة البكريين فاستمرت الإمامة في بيتهم مائة سنة وثلاث وتسعين سنة تخلفت عنهم مدة يسيرة في خلال ذلك غير أنهم- رضي الله عنهم- كانوا معتمدين في شرفهم وفضلهم على الخطة المذكورة إلى أن بلغوا إلى الغاية التي أخرجتها من أيديهم. وهذه عادة الله الجارية في بيوت الفضل والشرف من الملوك وغيرهم إذا تطاول عليها الزمان واعتمد عليها أبناؤها ولم يحصلوا على شرف لأنفسهم فلا يلبث بهم الاشتغال بالترف ونضارة العيش أن يهدم معاليَهم التي بناها آباؤهم وغفلوا عن تجديد زقها رحم الله أعظم جميعهم. وسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.