ونسج أبناؤه على منواله في العلم والتقوى حتى كانوا كعوباً متناسقة في الفضل وكراماتهم وآثارهم يرويها الخلف عن السلف. فولي ولده الشيخ مَحمد بفتح الميم عوضه في إمامة مسجد دار الباشا ومنه تنقلت إلى ابنه سميّ جده الشيخ أحمد مدرس الجامع الحسيني ونائب خطة القضاء بتونس وقد تداولوا يقابة الأشراف وورثها بعد المذكور ولده "الشيخ عبد الكبير" مع إمامة مسجد دار الباشا، ودرس جامع محمد باي المرادي، ودرس باب الشفا ودرسين آخرين بجامع الزيتونة كما ولي مشيخة مدرسة حوانيت عاشور بعد وفاة الشيني "عبد الله السوسي". وولي خطبة جامع أبي مَحمد ثم تأخر عنها وكان عالماً صالحاً شاعراً جليلاً اجتمع بشمهووش الصحابي رضي الله عنه.
وذلك أنه وقعت مرمة عندهم رأى فيها أحد الخدامين ثعباناً قتله فوقع صريعاً ثم رأى نفسه بين يدي قوم من الجن يدَّعون عليه قتل واحد منهم على يد شمهروش فسأله عن ذلك فأنكر القتل، وقال: إنما قتلت ثعباناً، واستشهد بالشيخ عبد الكبير الشريف فطلب منه الاجتماع به في خلوة وعند وقوعه سأله عن ذلك وبمجرد ما أعلمه الشيخ القصة قال شمهروش: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تطور بغير صورته فقمل فدمه هدر" وعند ذلك خفي سبيل الخادم المسكين.
ولما أقبل الجزائريون على نهب البلاد قصدوا داره فوضع الشيخ يده على بابه يقرأ عليه فبادره أحد أشقيائهم ببلطة ليضرب بها الباب فلم يشعر إلا وحديدها عاد عليه وخر من ضربتها ميتاً فصاح أصحابه يطلبون من الشيخ العفو وأتوا بصنْجَق وضعوه على باب الدار، وأقاموا عليها حراساً منهم حموا بهم جميع أهل تلك الحومة.
على أنه آية الله في تحصيل العلوم، والخبرة بمواقع المنطوق والمفهوم، مع ذكاء وميض، وبحث عريض، وقد سبق له ذكر في مجلس الأمير علي باي وكم له من ظهور على مجادليه، بلغ به في العلم إلى الشأن النبيه. وقد امتدحه في بعض ظهوراته تلميذه الشيخ محمد الغضبان بقوله: [المجتث]
أمن تألُّقِ بَرْق ... في الدَّجْن لاحت غزاله
أم بدر تم تبدَّى ... حفته بالنور هاله
أم روضة العلم لاحت ... ووشَّحتْها الجزاله
ببحث حبْر جليل ... تاج الهدى والعداله
كبيرِ قدرٍ وعلمٍ ... وتفي الذكا والمقاله
يُعزَى لخير البرايا ... من كلَّمتْه الغزاله
قل للمُجادِل فيه ... قد خضت بحرَ الجهاله
إن عُدْتَ للحرب يوماً ... أهْدَى إليك نباله
وإن جنحت لسَلم ... تنجو على كل حاله
سلم لبحر المزايا ... لبَّاس بُردِ الجلاله
كم مستفيد أتاه ... لنيل مجد فناله
من نحوه الشُّهبُ ترمي ... لمن يروم مناله
لذا الأمير اصطفاه ... لقربه فاستماله
فراية العدل منه ... هالت فضاهي مثاله
والسعد وافاه يسعى ... لمن يروم نِزاله
لازال في المجد يرقى ... وأصلح الله باله
وحفه بسرور ... ومجْدُه في استطاله
بحق من قد أتانا ... بالسيف ماحي الضلاله
عليه أزكى سلامٍ ... ماسح مزن سجاله
وقد اعتكف على بث العلم وانتفع الناس بعلمه إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة ست ومائتين وألف وله من العمر خمس وثمانون سنة، وفخر علمه وفضله متلو بكل لسان.
وقد ولد ولده صاحب الترجمة عام ثلاثة وسبعين ومائة وألف ونشأ في حِجر تعاليم أبيه، صاحب الشأن النبيه، العالم الشهير الشيخ "عبد الكبير"، وقرأ عليه المعقول والمنقول والفروع والأصول، كما قرأ أيضاً على فحول المتقدمين من علماء تونس منهم أبو "عبد الله الشيخ محمد بن علي بن خليفة الغرياني الطرابلسي". ومنهم أبو محمد الشيخ "عبد الله السوسي" ومنهم أبو عبد الله الشيخ "محمد الشحمي" وغير هؤلاء من فحول العلماء فلازم الأخذ مدة شبابه وتصدى للإقراء.
ثم إن والده قدمه عِوضه لدرس باب الشفاء والدرسين الآخرين بجامع الزيتونة ومشيخة مدرسة حوانيت عاشور واعتكف على بث العلم، وله في الأدب يد طاوَل بها نجوم الأفلاك، حيث فاقت بدائعه على الدر في الأسلاك، مع فصاحة اللسان عند المحاورة، وغرابة اللطائف في المحاضرة، عاتبه العالم الشيخ "محمد القابسي" بقوله: [الكامل]