وكتب في الفتاوى كتائب عزيزة من أهمها كتابه "معين المفتي" وكتب "حاشية جليلة على القطر" لابن هشام سلك فيها مسلك المحققين من علماء المعقول قد طبعت في المطبعة التونسية وقرأناها وأقرأناها فإذا هي عنوان علم واسع ومدرك شاسع، ومنها يستفاد أن له كتابة على شواهد المغني غير أنا لم نقف عليها، أما "حاشيته على لامية الزقاق" فهي كنز التحارير الرقاق، وناهيك به من إمام شريف، تحلى بالعلم والتأليف، وزين ذلك بحسن الأدب اللطيف، له غيرة وحمية، وكرم نفس وإنسانية، وهيبة ربانية، رفعت مقامه على سائر أهل الروية. وله من علو المقدار وحسن الآثار، ما خلد ذكر، بكثير من الأخبار، الدالة على خلوص علمه وعمله بغير إنكار، ولم تزل الرجال تأخذ عنه طبقة بعد طبقة إلى أن أتاه أجله فتوفي ليلة السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف ودفن بتربة آبائه في أعلى الزلاج عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ "أحمد الكيلاني" بقوله: [الطويل]
أيا عينُ فيضي واهطلي بسجامِ ... أمامَ ضريح ضم خير إمام
ويا قلبُ كيف الصبر قد حال بيننا ... وبين غَمام الديق غيم حمام
فأعظْم به رزءاً لقد حل بالثرى ... وأمسى به في حيرة وهيام
وأظلم أفق الجو واعبَرَّ لونه ... متى هتف الناعي بنعي همام
إمام جليل القدر من آل هاشم ... سليلِ فحول من بطون كرام
هو الحسن الندْب الشريف الذي رقت ... به زمرة الأشراف أعلى مقام
فقد كان في دنياه أعذبَ مورد ... وقد صار مرجوٌّا ليوم قِيام
وقد كان للدين الحنيفي صارماً ... وللعان والملهوف صوبَ غمام
وما كنت أدري قبل أن ضمه الثرى ... بأن الثرى يُخفي بدورتمام
فراح ولم تعرف له قط هفوةً ... وسار إلى فردوسه بسلام
فمن لدروس العلم أو لمنابرٍ ... ومن للقضايا عند نشر خصام
ومن لعويص القول من بعد سيد ... يحلُّ من التعقيد كل كلام
تآليفه قد طار في الأرض صيتُها ... بتحرير أبحاث وحسن نظام
سَيتْدُبُه البيت العتيق ومن به ... ويبكيه طول الدهر كل إمام
ولا غرْوَ أن شخ السماء بنوْئه ... وصار الثرى من فقده كرجام
وماذا عجيب للذي كان علمه ... سراجاً منيراً في سواد ظلام
فلا زلت يا فخر الزمان مخلدا ... لأرفع مجد في أعز مقام
ولازلت يا طود العلوم مُرقرقاً ... على تربك المسكي فيضُ ركام
عليك سلام الله ما هبت الصَّبَا ... وما لاح برق من خلال غَمَام
مدى الدهر ما قد قال فيك مؤرخ: ... فلله من رمس لأسمى همام
[..١٢٣٤..] ٣٩ الشيخ محمد الشريف هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكبير أخو الإمام المتقدم الذكر، وناهيك به من جوهرة برزت من أصداف النبوة، وتقدم إلى التكريم والتبجيل في زمن الفتوة، ولد سنة خمس وستين ومائة وألف وتربى في عز بيته وتعاليم أبيه وجده، وأخذ عن والده والشيخ "صالح الكواش" والشيخ "محمد الغرياني" وعن خاله الشيخ "محمد الشحمي" والشيخ "محمد بن قاسم المحجوب" وغيرهم من أعلام جامع الزيتونة إلى أن بلغ في العلوم أشده، وظهرت عليه البراعة التي أضافت إلى شرفه ومفاخره مكارم مستجدة، وجلس للتدريس، وقلد الأجياد من در علومه النفيس. وتقدم لشهادة الديوان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الثانية سنة عشرين ومائتين وألف عوضاً عن الشيخ "حسونة بوكراع"، ثم قدمه والده عوضه للتدريس بجامع محمد باي المرادي، ونقابة الأشراف، وإمامة مسجد دار الباشا فزان جميعها بعلمه وفضله. غير أنه عند وفاة والده تنقلت نقابة الأشراف من بيتهم واستمر هو في خدمة العلم لولا أنه شغلته خطة الإشهاد على أوقاف الديوان، وكانت من الخطط النبيهة في ذلك الأوان، بما يقتضيه التحري والوقوف على جزئيات مداخيل الوقف ومصاريفه كما هو شأن عدول الرضا أمثاله، ولذلك لم يبلغ في بث العلوم إلى غاية آماله. ومع ذلك كان يقرىء بجامع الزيتونة قرب باب الشفاء وأقرأ شرخ التاودي على العاصمية وغيره.