وعند وفاة أخيه الإمام الأكبر بجامع الزيتونة قدس الله روحه قدمه الأمير محمود باشا باي إلى خطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة، وولاه مشيخة مدرسة حوانيت عاشور ودرس باب الشفاء عوض أخيه فزان المنبر والمحراب، وترنم في التلاورة فأتى من حسن تأثير صوته بالعجب العجاب، تتفجر الدموع من سامعيه انفجاراً، وتخشع القلوب من مواعظه وتتأجج إنذاراً. ومع ذلك لم يترك بالمرة التدريس بالجامع، بل كان يقرىء فيلقي الدرر اللوامع، وكان مع ذلك جانحاً إلى أخلاق الصالحين، في الزهد والقناعة ولين الجانب والأخذ بخواطر المساكين. وهو معتقد للخاصة والعامة رضي الله عنه.
أخبرني حفيده أنه كان في بعض الأيام قرع عليه البات ربئ غريب فخرج إليه الشيخ فطلب منه الدعاء، وقال له: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبت منه الدعاء، فقال لي: اذهب إلى ولدي محمد الشريف يدعو إليك فجئتك لذلك، فدعا له بما يسر.
وأما واقعة الشيخ "أحمد بن الخوجة" القاضي الحنفي معه فهي شهيرة أخبرني بها حفيده شيخ الإسلام، وذلك أن الشيخ الإمام كان مطلوباً في نازلة عند الشيخ القاضي الحنفي فأرسل إليه فامتنع من القدوم عليه عدة مرات حتى تشدد عليه في ذلك فلما كانت تلك الليلة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بمساعدته، وقال له: إنه ولدي وعندما أصبح ذهب إليه بنفسه وبمجرد تلاقيهما أكبا على بعضهما يبكيان وتسامحا أحسن مسامحة، وعند ذلك بادر الشيخ إلى أداء ما عليه من الحق على أكمل وجه- رضي الله عنهما أجمعين- وقد أشرت إلى الواقعتين المذكورتين في قصيدتي "الأجنة الدانية الاقتطاف بمفاخر سلسلة السادة الأشراف" بقولي: [البسيط]
كان المجابَ الدعا في غير حادثة ... وأهل عصره من ذا الباب كم نقلوا
لذاك وافاه شيخ طالب أملاً ... بدعوة منه عنها ليس ينعزل
وقال: إن رسول الله أرشده ... لنجله ذاك وهو السيد الجللُ
والمصطفى أمر القاضي ببره في ... فصْل القضا حيث مافي حكمه جدل
فجاءه يترضى وهو سامحه ... مبادراً لأداء الحق يمتثل
وعلى عهده توفي الإمام الثاني الشيخ "عمر بن المؤدب" ليلة الأحد الثاني عشر من جمادى الأولى سنة خمس وأربعين. وتقدم الشيخ محمود محسن إماماً ثانياً والشيخ الشاذلي بن عمر بن المؤدب إماماً ثالثاً ولم يزل صاحب الترجمة في الإمامة الكبرى إلى أن بلغ عمره التسعين سنة فأصابه نقط جلدي عطله نحو شهر وتوفي ليلة السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة خمس وخمسين ومائتين وألف. وتبرك الأمير والمأمور بمشاهدة جنازته عليه رحمة الله.
٤٠ الشيخ إبراهيم الرياحى هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد القادر بن أحمد الرياحي ابن الفقيه إبراهيم الطرابلسي المحمودي. قدم جده إبراهيم من طرابلس، ونزل بالموضع المعروف بالعروسة من عمل رياح، وكان يحفظ القرآن، وله معرفة بسر الحروف فاشتغل هنالك بتأديب صبيان تلك الجهة، ثم تنقل ابنه أحمد إلى بلد تستور، وبها دفن هو وابنه عبد القادر، وبها كانت ولادة صاحب الترجمة عام ئمانين ومائة وألف وقرأ هنالك القرآن وكان هنالك الوليّ الشيخ "صالح بن طراد"، معروف بالجذب فأتى بجلاب مملوء أطعمة مختلطة من أنواع كثيرة ووضعه على أُسكفَّة باب المكتب، فعمد إليه صاحب الترجمة واستف جميع ما حواه الحلاب وتركه في مكانه. فجاء الشيخ يسأل عمن أكل طعامه، فاعترف له، وعندما علم أنه هو الذي أكله صار يصيح به، ويلتفت إليه وإلى مؤدبه يظهر التعجب، ويقول له: أأنت أكلت الجميع ولم تترك شيئاً لأحد من إخوانك إنها لك عطية من الله. وبعد أن قرأ القرآن بتستور ارتحل إلى تونس في طلب العلم الشريف أواخر القرن الثاني عشر ونزل بمدرسة حوانيت عاشور مدة، ثم تنقل منها إلى مدرسة بئر الحجار، وأعمل يعملات اجتهاده في العلم ولازم دروس الفحول.