للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أربعة عشر جزءاً في النصفي، والشيخ "عبد الله الغدامسي" معقول العلوم ومنقولها، واجتمع مع الشيخ "محمد الشحمي" على نظر مختصر السَنوسي في المنطق وخرج إلى طرابلس في طلب العلم فأدرك بها الشيخ "محمد التاودي بن سودة الفاسي" فختم عليه الشفا، وقرأ هنالك التفسير والحديث على الشيخ "نسوس المغربي"، ورجع إلى تونس على أكمل حالة من التحصيل، إذ بنى علمه على أصل أصيل، له اليد الطولَى في المعقول، وهو المرجع في الفروع والأصول، وتقدم لمشيخة المدرسة المنتصرية بعد وفاة الشيخ "إبراهيم المزاج الأندلسي" قاضي الحاضرة في ذي القعدة الحرام سنة خمس وسبعين ومائة وألف، وأقرأ بها دروسه الفائقة واعتكف على العلم والعمل، إلى أن بلغ في نفع العباد إلى غاية الأمل.

وقد رحل من تونس على عهد الأمير علي باي حيث أنكر على قراء الأحزاب أسلوب قراءة القرآن الذي أفضى إلى تغييره وشدد النكير عليهم في النهي حتى وقع اضطراب بين العامة فاضطره الأمير إلى الرحيل ورجع بعد حين، ونال به العلم وأهلُه قرة العين، إذ كان يلازم التدريس بجامع الزيتونة والمدرسة وهو شيخ شيوخ البلاد، وصالحُها الذي بلغت به إلى غاية المراد، متخلق بالزهد وملازم للتقشف لا تأخذ في الحق لومة لائم حاضر الجواب لا يتهيب فيما يخطر بباله، سواء عنده الأمير والمأمور في جميع الأمور.

استدعاه الأمير حمودة باشا لمنزله في بعض الليالي، ولما دخل إلى مجلسه أصابت شمعة ثوبه فتلا قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) . وقد ثقل عليه ضعف بصره في آخر أمره وبلغ من العمر نحو التسعين سنة وأدركته المنية فتوفي يوم الاثنين السابع عشر من شوال سنة ثماني عشرة ومائتين وألف. ودفن من الغد خلف ضريح الإمام ابن عرفة من الزلاج عليه رحمة الله ورثاه تلميذه شاعر البلاد الشريف العالم الشيخ "أحمد زروق" قاضي المحلة بمرثية ميمية مثبتة في شعره أبدع فيها ما شاء، وأرّخ وفاته بقصيدة غراء سارت بخبرها الركبان وكتبت على ضريحه وهي قوله: [الطويل]

لمثلك من خطب تنوحُ النوائحُ ... وترتاع في أغمادهن الصفائحُ

أُرِيقَت له دون الدموع دماؤنا ... وشفت له دون الجيوب الجوارحُ

هو القدر المحتوم يلقاه سانح ... ويرمي به في غامض اليم سابح

وأما وقد أودى الحِمام بصالح ... وقد عم ثلم في علا الدين واضح

هو العلم العلاّمة الفرد مَن غدا ... ولا فرد في أدنى معاليه طامح

هو المنهل الفياض ينبوع علمه ... بماء حياة بحره العذب طافح

إمام الورى الشيخ الهمام الذي له ... مآثر راقت في علاها المدائح

فتى كان أمّا فكره فهو معجز ... ذكاءً علمه فهو فاضح

حوى فكره كل العلوم فنقلها ... ومعقولها متن له وهو شارح

فص لعلوم الدين من بعد صالح ... إذا نابها خطب من الغير فادح

كوى مصرعُ (الكواش) أكبادَ أهله ... ففي قلب كل من جوى الحزن قادح

حوى قبره معْ ضيقه من علومه ... رواسيَ قد ضاقتْ بهن الأباطح

حوى جامع العلم الذي انقاد لاسمه ... إذا ما تلا من مشكل العلم جامح

فما غاب حتى أدبرت أنجم الهدى ... وصاح بإدبار المعارف صائح

وقال الورى قد مات علاّمة الورى ... فأرّخ: يموت العلم إن مات صالح

[ ... ١٢١٨ ... ] [محمد الفاسي] وقرأ أيضاً صاحب الترجمة المذكور على الشيخ "محمد الفاسي" الذي كان وفوده إلى تونس قبل طاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف في سن الشبوبية بين العشرين والثلاثين، وقرأ على الشيخ صالح الكواش والشيخ حسونة بن خليل الحنفي، وقرأ المختصر الخليلي بمدرسة علي باي على الشيخ "محمد بن خليل الحنفي"، إلى غير ذلك من الدروس التي لازمها، وطلع بدراً في هالاتها، حتى أصبح من فحول علماء تونس مع ما عنده من الخيرية والفضل والتصدي لنفع المتعلمين ومعرفة الأسرار الربانية، وقد اختص به الشيخ "محمد بن حسين البارودي" فكان يلازم بيتهم إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، ودفن بتربة البارودي قرب كوشة المنتشالي عليه رحمة الله ورثاه تلميذه صاحب الترجمة الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل]

شرفُ الورى يا دهر كيف هدمته ... وقصدت عمدا للهدى فثلمتهُ

<<  <   >  >>