للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما بعد فأيها السيد الجليل، ذا الفخر العريض الطويل، أهدي إلى حضرتكم سلاماً أشهى من البرء للعليل، وأنفع من الماء للغليل، ورحمة الله وبركاته. وأشكو إليك جوى فؤاد عولت عليك أفلاذه، وأعول طويلاً وأنت مالكه وأستاذه، وفارقه وسنة، ورافقه حزنه وشجنه، وهام في طرقات همه، وأمسى أمسه خيراً، من يومه، وارتدت على أعقابها آماله، وغدا شذر مذر حاله. وموضوع قضيتي مطال، وشرح قصتي تكل عنه الأقوال، وقد اقتضى الحال سرد بعضها على حضرتكم، وعرض أمري على سدتكم، ليتضح من ينسب الظلم إليه. ويظهر الباغي والمبغي عليه، وذلك أن والدنا رحمه الله لمها قلد بطراز الولاية، ورشح لهذه الرعاية، اتفق على ولايته أهل الحل والعقد، ورضيه ذوو الاختبار والنقد، ولم يزل راغباً عن الإمارة، راهباً من ورطة النفس الأمارة، إلى أن ولوه بالرغم عليه، حيث توسم الناس الخير فيه، فقام في ذلك المقام، أحسن قيام، وعامل الناس بالرفق، وسلك سبيل الحق، واجتهد في إعلاء السنة المحمدية، وإحياء الشريعة الأحمدية، حتى غدا عصره أحسن عصر، ومصره أجمل مصر، والناس بحسن سيرته في أمن وعافية، وعيشة راضية، ولعله بلغكم ما فعله من الخيرات، وسوابغ الحسنات، ولولا الحرص على تعريف حضرتكم بالحال، وشرح المقال، لما سطرت يمناي في هذه التزكية حرفاً. ولا أعملت في ميدانها طرفاً. ثم إن والدنا رحمه الله لما جرته الأقدار إلى موقف الملك، وانتظم في ذلك السلك، كان له ابن أخ رباه صغيراً، وسقاه من صنوف الإحسان سلسلاً نميراً، فرأى أن الأقارب أحق بالتقريب، وصلة الأرحام من أحسن ما سعى إليه اللبيب، فقرب ذلك الربيب وأدناه، وخصصه واجتباه، وولاه الولايات. ورأسه على الجبايات، وصاهره بكريمته، وأسنى في قيمته، وقدمه على الأجناد، وفعل معه ما لا يفعله إلا الوالد مع الأولاد، إلى أن أضحى بالعيون مرموقاً منظوراً، ولم يكن شيئاً مذكوراً، فلما شب وازدهى، واقتعد السهى، نبهوا والدنا عليه، وقرروا عنده ما يجنح إليه. وأغروه به، وعلى الاستراحة من نصبه وتعبه، فرأى والدنا رحمه الله أن هذا محض ظن ووهم، وإن بعض الظن إثم، وأن الإقدام على الحد بغير ثبوت شرعي يسخط الرب، ويدخل في ظلمات الذنب، فأعرض عنه إعراض من ثبت لديه بغيه، وما يرتاده سعيه، وتغافل عما يبدو منه وأغضى، واختار الرضى بالقضا، فلم يلبث إلا قليلاً وفر ذلك الربيب ومال إلى بعض الجبال، وجمع عليه أهل البغي والضلال، وأفسد الطرقات، ومنع المعيشات، ورماح بغيه على المسلمين شرعٌ، وأموالهم نهب يوزع، ولم يزل والدنا يقاسي في حسم ذلك الفساد، والبلاء النازل على العباد، إلى أن أجلي من تلك الأقطار، وعاد الأمن إلى ما كان، وحسن الزمان، وسرت البلاد والعباد، وانمحى البغي والفساد، وحين وضعت الحرب أوزارها، وراجعت العافية دارها، رأى والدنا أن تأخير الحج المفروض المحتم، كتأخير رأس مال السلم، فعزم على الحج إلى بيت الله الحرام وزيارة قبره عليه السلام، وأن يلازم ذلك المحل، إلى أن تتلاشى روحه وتضمحل، وعمد أن جمع مجلساً عاماً حضره العلماء الأخيار، والفضلاء الأبرار، وعهد إليّ بالولاية، وقلدني بالملك والرعاية، وبايعني الناس عامة على السنة المألوفة، والطريقة الموصوفة، وهذا العدو إذ ذاك بالجزائر يفسد في نفوس حكامها، وولاة أحكامها، ويحسن لهم القيام علينا، وإضرام نار الحرب في نواحينا، حتى استزلهم بدهاه، وبلغ من ذلك مناه، وكان ما في علمكم، وتقرر عندكم، وآل أمره إلى أن جرع والدنا الحمام بيده. وتولى ذبح مربيه ووالده، وغصب لنا ملكنا، واستحل هلكنا، وأقبل على الخلق قتلاً وصلباً، ونهباً وسلباً، وبدل الناس البأس بالعيش الأول، وأفعال الله لا تعلل.

[الخفيف]

هذه قصتي وهذا حديثي ... وإذا كنت خاذلي من يجير

<<  <   >  >>