وكان الخيرُ في وسط يرجَّى ... وهذا في توسطه نياح
وقد حجبَ الخصومُ عن التلاقي ... فلا فصل يكون ولا اصطلاح
ولا المحجوب يسلمُ عند هذا ... فكان له من الفرقِ الفلاح
ولا جريُ الرياح لها سكون ... نرجَّاه فيرتفع الجناح
ولا هول البحور له خمود ... به يؤرجى لعابره رواح
وحيث إن الشيخ محمد البحري من تلامذة الشيخ ابراهيم لم يرض منه تلك المخالفة التي أفضت إلى هدم سياج الاحترام، سيما وقد انتصر عليه بالأمير حتى أفضى الحال بالشيخ إلى الاستعفاء من خطته غير أن الأمير لم يقبل استعفاءه، ومتكوبه الذي عرض به استعفاءه هذا نصه: "المنة لله الذي اصطفى، لنصر الدين وإعزاز الملك سيدنا مصطفى، ووصل به رحم الشريعة بعد القطيعة والجفا، فها هو في رفع قواعدها كالساعي بين المروة والصفا، لازالت موارد أعدائه في كدر وموارده في صفا.
أما بعد تقبيل يد القدر العلي، بشفاه الإجلال الصفي، والحب الوفي، فإن معظم قدركم لم يطلب الإقالة إلا لما عيل صبري، وضاق ذرعاً أمري، فإني منذ توليتها وأنا حزين الفؤاد حتى وهن العظم مني، واشتد ضعف الكبر في سني، وهذا القدر كاف، في تفضلكم علي بالإسعاف، كيف وقد انضم إلى ذلك ما لا صبر لأحد عليه وهو مواجهتنا على رؤوس الأشهاد، بإساءة الأدب في ذلك الناد، ممن كنا نلقَّمه ثدي التعليم، ويرعانا بعين الإجلال والتعظيم، ثم إنه لم يقنع بسنان لسانه، حتى شرع إلينا رمح بنانه، فهل بعد هذا التعدي من إذلال، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فإذا تفضل علينا سيدنا دامت معاليه، وسعدت أيامه ولياليه، برفع اليد عن رضا منه، فقد اطلع في شأننا على الكنه، ومن علينا بالعتاق، وإن رضي بالأخرى وأنا كاره، فرضاه جنة الدنيا وحفت الجنة بالمكاره، والدعاء ببلوغ المرام، ختام الكلام والسلام".
وبعد أن انتهت النازلة على وفق مراد قاضي الحضرة الشيخ البحري طلب منه المسامحة حفظاً لحق المشيخة غير أن الشيخ ابراهيم لم يسمح له بالعفو، حتى أنه لما خرج للحج بالنيابة عن الأمير مصطفى باشا عرض شكايته به على الحضرة النبوية عليها من الله أفضل الصلاة وأزكى التحية، وقد ضمن تشكيه في القصيدة التي أنشدها في الروضة الشريفة وهي قوله: [الطويل]
إليك رسولَ الله جئت من البعدِ ... أبثك ما بالقلب من ألم الوقد
بغى وطغى مستكبراً متشبثاً ... بوهم يقود النفس للخطا المردي
وصار رقيباً مبغضاً متجسساً ... يقصر طولَ الليل في الرد والنقد
وعبدك يا خيرَ البرية غافل ... ظننت به خيراً لما مرَّ رمن ودِّ
ترفّع للدنيا بخفضيَ جاهداً ... معاناً بأنذال عرِّيين عن رشدِ
وبالغ في خفضي إلى أن غدا على ... لسان الورى يتلى جهاراً بلا جحد
ولم يرع أيّاماً يرانيَ شيخه ... ومرشده الهادي ومنعمه المهدي
ولا خاف لوماً في القطيعة لا ولا ... عقاباً من المولى على ناكث العهد
فهذا رسول الله إجمالُ مكرهٍ ... وتفصيلهُ يا سيِّدي ليس في جهدي
ألا يا رسولَ الله ضيفك سائلٌ ... وهل ضيفُ أصلِ الجودِ يكرمُ بالطرد؟
ألا يا رسول الله برِّدْ جوانحي ... بدائرة تسعى إليه بلا بعد
عليك صلاة الله ما لاح بارق ... وأزكى سلام دونه فوحة الند
وعلى كل حال فإن بلوغ النازلة بين الأساتذة وتلميذه إلى هذا الحد إنما كان بسعايه السعاة من الواشين، نسأل الله أن يرضيهما بأعلى عليين، بجاه خير المرسلين.
وقد كان خروج الشيخ ابراهيم للحجة المذكورة على نفقة الباشا السابق الذكر، ليودي عنه الفريضة صبيحة يوم السبت الثاني من شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف، ورجع يوم الأحد الثامن من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وأسرع الأمير لرحمة ربه بعد يومين من قدومه، فكانت وفاته إثر مغفرة الذنب والبرء من كلومه. وبوفاة الأمير استحالت الحال على الشيخ القاضي المذكور، وأتاه محتوم الأجل بعد تسعة من الشهور، عامل الله جميعهم بالغفران، وأرضاهم في نعيم الجنان، بجاه سيد ولد عدنان.