وقد تلقته الحضرة السلطانية بالقبول، وأحظي منها باللقاء المأمول، ولما دخل الموكب السلطاني، افتتح حال دخوله يتلو قوله تعالى: (يوجد آية) الآية بحسن صوته الجهوري الذي يلين له الحجر الصلد. قيل إن جميع من حضر في ذلك الموكب انسكبت دموعهم، ولاقى من الحضرة السلطانية غاية التكريم، وأنشد بين يدي السلطان قصيدته المديحية التي أبدع إيجادها وهي قوله: [البسيط]
العزُّ بالله للسلطان "محمود" ... ابن السلطان محمود فمحمود
خليفة الله ما أعلاه من شبه ... بآدٍ ونبيّ الله داود
من آل عثمان سادات الملوك ومن ... جاؤوا كعقد من الياقوت منضود
سادوا الأنام وشادوا الدين وافتتحوا ... من كل ما فيه خير كلَّ مسدود
هم السلاطين ما ذرَّت وما غربتْ ... شمسٌ على مثلهم في نصر توحيد
وجاء سلطاننا المحمود بعدهمُ ... بكل رأي من الآراء مسعودِ
وربما جهل الإنسان مقصده ... فجاء فيه بقول غيرِ مقصود
لم يعطهِ اللهُ ملكاً في خليقته ... إلا لمعنى من الأغيار مفقود
دانت لدولته الأعناق خاضعة ... من كل ذي ولد منهم ومولود
تخشى السلاطين من بعدٍ موارده ... لما له من جلال غيرِ مجحود
وكل باشا وإن جلت مكانتهُ ... فليس غيرَ فتى في الرقِّ مصفود
أعزَّ دينَ الهدى إنْ يخشَ منقصة ... بكل قرم من الإسلام صنديد
وقوة من لدن رب العلا بهرت ... برّاً وبحراً بنظم غير معهود
العجمُ تشهدها والعربُ تعلمها ... شرقاً وغرباً من البيضان والسود
أنت المذلُّ لعبَّاد الصليب وإن ... لوى الزمان بإنجاز لموعود
لا يخلف اللهُ في نصرٍ مواعده ... لكنْ إلى اجل في العلم معدود
أنت المؤمَّل في كل المهمَّ فمنْ ... أتى لبابك قصداً غيرُ مطرود
وقد أتيتك من أقصى البلاد وفي ... ظني الجميلِ بلوغي منك مقصودي
دامت معاليك للإسلام مرحمة ... وللطغاة عذاباً غيرَ مردود
بحرمة المصطفى المهدي الإله له ... أزكى تحيته من غير تحديد
تعم أتباعه في الدين قاطبةً ... والخلفاءَ إلى السلطان محمود
وبعد ذلك عرض طلبته على الحضرة السلطانية بقصيدته الثانية التي صرح فيها بالغرض وهي قوله: [الطويل]
ركبتُ متونَ اللجّ وهي لها رجف ... وأوراحها بالسابحات لها عصفُ
ولي منه أهوالٌ يود رهينها ... وقد خشي الإغلاق لو جاءه الحتف
ولكنَّني ما زلت أمزج مرَّها ... بحلو رجاءٍ طاب منه ليَ الرشف
عسى مقلتي تحظى بأنور غرّة ... على غرة الرائي سناها له عطف
خليفةِ رب العالمين وظلَّه ... إذا اشتد بأسُ الدهر فهو له كهفُ
فإني صرفت الوجه نحو فنائه ... وأنزلت رحلي حيث يمتنع الصَّرفُ
إلى حضرة السلطان محمودٍ الذي ... ملوك الورى رقٌ لدولته صرف
أيا عزَّةَ الإسلام إن خاف ذلة ... ويا مفرغ الأملاك إن مسهم وجف
لك الأرض ملك والسماء مؤازر ... وعون إله العرش رمحك والسيف
فما ثم فوقَ الأرض من لم يكن له ... رجاءُ أياديك الجليلة والخوفُ
يرجيك مسكينٌ ويخشاك قاهر ... فللأول الجدوى وللآخر القصف
لك الحمد في كل البسيطة عابقٌ ... له مشرقُ الدنيا ومغربها أنف
بذكرك تهتزُّ المنابر بهجةً ... وباسمك أفواه الدعاء لها هتف
إذا ما دعوا بالنصر مدّت ضراعةً ... أكفُّ ونحو العرش مدَّ لها طرف
خصوصاً لدى البيت العتيق وروضةٍ ... لكون سحاب الجود منك لها وكف
فأخصب بعد الجهد والجد عيشهم ... ومن بحرك الطامي تأتي لها غرف
وكم لك يا مولاي من حسن خلّة ... توحَّدُ إن عدت وفي ضمنها ألفُ
تذكر أسلافنا كراماً تقدموا ... سلاطينَ جائتنا بأنبائها الصحف
بدولتهم جاء الكتاب منبهاً ... وفي الأنبيا عند الختام أتى الوصفُ
وإن فاتح الأرض سليمان جنده ... لهم أجناد الورى إرثها وقف
وفاتح إسلامبولَ جاء مديحه ... عن المصطفى رفعاً وليس به وقف
مضوا ومزيد اللّطف لم يمضِ حيثما ... سليلهم المحمود آثارهم يقفو