حوى السبقَ ابراهيمُ في خطط العلا ... وأصبح للبيت العتيق إمامه
فوافاه في نور يزاد لنوره ... وشيد بالمعنى الزكي علامهُ
فما حقَّ ثوبُ الفضل إلا لأهله ... فإن مقام المرء حيث أقامهُ
وأنت أبا اسحق قطب رحائها ... علوت من الفضل العظيم سنامهُ
وأنت له أهل إذا جد جدُّها ... وطيب الثنا أهدى إليك زمامه
فضلت الألى سادوا بعلم ورفعة ... أرى كل ذي فضل سبقت إمامه
إذا جرّ فن النحو فقت "خليله" ... تنير له المعنى الذي قد أقامه
إذاى جرّ فن الفقه فقت "خليله" ... تبين فتواه وتجلى انبهامه
غمام علوم الدين طراً بأسرها ... همام بذكر الله حلَّى كلامه
إمان الهدى والعلم والفضل والتقى ... وللفضل والتوفيق شدّ حزامه
يفيد الورى علماً وهدياً بحكمه ... ويهدي الحجا نفعاً نفى ما أضامه
على منبر حياً وأحيا بوعظه ... فؤاداً به خطب وأحيا منامه
هناءً له أبقى الإله ثناءه ... وفي الجامع المعمور نال مرامه
وأضحى له التاريخ: يسطع نوره ... فيا فوز ابراهيم حاز مقامه
[ ... ١٢٥٥ ... ] وقد زان بعلمه وعلمه المحراب والمنبر، وأطلق من عبير مواعظه المسك الأذفر، فخطب من إنشائه خطباً بليغه يلين لها االصلد، وتنسكب الدموع لها عند السرد، غذ تنثر بحسن نظامها لآلئ الدموع، وتسخر الشرس بلطفها إلى أحسن الذكر المسموع، مع صدأة صوته الجهوري، وتأثير عمله في نفس كل سميدع سري، وتلاوة تقشعر لها الجلود خشية وليناً، وتنذهل الألباب وتحن لها الأرواح حنيناً، وقد أنشأ خطباً لعموم أسابيع الحول، وزاد عليها خطباً أخرى في أغراض كثيرة عرضت فأطنب فيها القول، وجميع ما له من الخطب، معدود عند البلغاء من نفائس النخب، بل إن خطبة قد اتخذها خواص خطباء البلاد التونسية للاستعمال، وقل من بلغ في الاستحصال على نفائسها إلى غاية الآمال، وقد كان العالم النبيه، علي بنيه، جمع منها ديواناً، حلاه بديباجة وأودعه نيفاً وعشرين خطبة برعت أفناناً، فكان من أنفس دواوين الخطب، التي يرغب فيها كل عارف بخبايا المواعظ ولطائف الأدب.
وهو أول إمام قرأ المولد الشريف بجامع الزيتونة يوم الثاني عشر من ربيع الأول باحتفال يحضره الأمير والعلماء ورجال الدولة بملابسهم الرسمية أمام المحراب، وألف لذلك مولداً لطيفاً، مازال محفوظاً عند علماء المملكة التونسية يتلى يوم المولد الشريف في جوامع حواضر المملكة لحسن إيجازه مع استيعابه لمهمات أخبار المولد الشريف وناهيك بما خلده بهذا الصنيع الجميل.
وقد كان قائماً على حدود الله مع نفوذ وتأييد إلهي لا تأخذه في الله لومة لائم حتى أنه يؤد شيئاً من المكوس التي وظفتها الدولة إذ ذاك على الراعي والرعية، يقوم الله في حقوقه ولا يخشى في ذلك أحداً.
خرج يوم المولد النبوي لقصد التوجه إلى جامع الزيتونة، فوجد عند بابه أرملة وأولادها عيلة رجل يسمى السعدي قد أقام في السجن في الكراكة مدة فضجوا بين يديه ضجة واحدة وتراموا عليه يسألونه بجاه الله ورسوله أن يشفع لهم في السجين المذكور عند المشير، فأجابهم لذلك، ولما أتم قراءة المولد، وأخذ المشير يحادثه عرض عليه شفاعته في السعدي، فقال له المشير: إنه مؤبد، ولم يستكمل كلمته حتى استعاذ الشيخ بالله، وقال التأبيد الله ونهض يكررها قبل إتمام الموكب، وقد بهت المشير من ذلك بمرأى ومسمع من جميع الحاضرين، وعند ذلك قام على إثره الوزير ولسان الدولة يعتذران عن صدور تلك المقالة من الوالي وأعلماه بأنه أصدر إذنه بتخلية سبيل السعدي.