للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إن عمل المفتي يتضمن تخريج وتنقيح وتحقيق المناط (١)، والأخير هو تنزيل الحكم المعين على الواقع الذي يناسبه، فإن عمر -رضي الله عنه- قد علم أن من حكم الله إعطاء المؤلفة قلوبهم، ولكنه منع أقوامًا كانوا يُعطَوْن من سهم المؤلفة قلوبهم من قبل؛ وذلك لأنه رأى أن المسلمين لا يحتاجون إلى تأليف قلوب هؤلاء الناس لما أعز الله دينه وأظهره.

هو إذًا لم يغير الحكم وإنما قرر أن مناطه لا يتحقق في الواقع الجديد، فغير الفتوى، فصار هذا الذي يُعطَى بالأمس لا يعطى اليوم. فإن احتاج المسلمون لتأليف قلوبهم بعد ذلك فحكم الله باقٍ ليس يتغير.

أما القول بتغيير الأحكام الشرعية، بمعناها الاصطلاحي عند الأصوليين، فلا أصل له ولا دليل عليه، وإن كان البعض استخدمه يريد به الفتوى كما ذكرت مجَلَّة الأحكام العَدْلِيَّة حيث جاء فيها «لا يُنْكَر تَغَيُّر الأحكامِ بتغيُّر الزَّمان» (٢). وعندما يتضح أن مقصود من قال بتغير الأحكام هو تغير الفتوى، أو الحكم في اصطلاح بعض الفُرُوعيين - مع شيء من التجوز - والذي يعرف عند الأصوليين بأثر الحكم، أو الحكم بمعناه


(١) تخريج المناط هو استخراج علة الحكم، كأن يقترن وصفٌ مناسبٌ بحكمٍ معينٍ في نصوص الشرع فيقال إن هذا الوصف، وليكن الإسكار، علة في التحريم.
وتنقيحه هو إلغاء ما لا يصلح للعلِّيَّة وإضافة ما يصلح، كما في حديث الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان، فليس كونه أعرابيًّا بمؤثر في الحكم، فيُلغى اعتبار هذا الوصف وغيرِه من أوصافِه، ويُثبَت وصف الوِقاع في نهار رمضان، وهل يضاف إليه الأكل والشرب؟ خلاف.
وتحقيقه هو تنزيله على أفراد الواقع، كأن تكون السرقة هي مناط القطع، فيجتهد الفقيه في تحقيق وجودها في النبَّاش؛ أو يجتهد في تحقيق القاعدة الكلية في الفرع، فيحكم بقدر نفقة الولد أو الزوجة. والمثال الأول أولى بتحقيق المناط والثاني أقرب إلى تطبيق النصوص في أفرادها، وإن عده البعض من تحقيق المناط.
انظر «مُذَكِّرَة في أُصُول الفِقْه على رَوْضَة النَّاظِر» لمحمد الأمين الشِّنْقِيطِيّ (ص ٢٩٢ - ٢٩٣).
(٢) انظر «دُرَر الحُكَّام شَرْحُ مَجَلَّة الأحْكَام» لعلي حَيْدَر (١/ ٤٧) المادة رقم (٣٩).

<<  <   >  >>