للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا يكون ذلك تحريفًا كتحريف أهل الكتاب لكتبهم، حيث زعموا أن أحبارهم ورهبانهم قد يغيرون من أحكام دينهم ما يرون، وهم في ذلك مؤيدون بروح القدس!؟

ألم يعِبِ الله -عز وجل- عليهم هذا حيث قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: ٣١] ولقد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعَدِيِّ بن حاتم -رضي الله عنه- أن ذلك كان باتباعهم إياهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال (١).

ثم ألا يكون ذلك عين ما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «من أحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما ليس مِنْه فَهُو رَدٌّ» (٢).

علمنا إذًا أن الأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل، ولكن فتوى المفتي التي تتضمن اختيار الحكم الأمثل للواقعة قد تتغير، فإن تحقيق المناط هو من الاجتهاد الذي لا يتوقف إلى أن تفنى الدنيا كما صرح بذلك الشاطبي -رحمه الله- حيث قال: «الاجتهاد على ضربين: أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف وذلك عند قيام الساعة، والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهذا الذي لا خلاف فيه بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدرَكه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محَله» (٣).

وإن الواقع المعين قد تناسبه أحكامٌ مختلفةٌ مِن وجوهٍ، فيختار المجتهد أنسبها له. وقد يتنازعه أصلان أو حكمان فيُلحِقه الحاكم بأقربهما إليه في المعنى والمبنى، وإن كان اعتبار المعنى مقدمًا عند التعارض استحسانًا.


(١) «سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي (١٠/ ١١٦).
(٢) «صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جَوْر فالصلح مردود (٢/ ٩٥٩)، «صَحِيح مُسْلِم» كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد المحدثات (٣/ ١٣٤٣).
(٣) «المُوَافَقَات» للشَّاطِبِيّ (٤/ ٦٤ - ٦٥).

<<  <   >  >>