للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التداوي، ولا نرى أنه يفيد جواز ترك التداوي على الإطلاق، لأنه -صلى الله عليه وسلم- ربما أراد أن يدخر لها الدعوة لأمر أعظم من الشفاء كدخول الجنة. وكذلك، فإن هناك فرقًا بين طلب الدعاء من الغير والتداوي، فالأخير من الأسباب المادية التي أمرنا أن نتعاطى معها لدفع الضرر، ومتى غلب على الظن اندفاعه بها لزمت. نعم، دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- أقوى من كل دواء، ولكن لو فتح الباب واسعًا، لَطَلَبَ كل أحد الدعاء منه في حياته بالشفاء والثراء وغير ذلك، ولكان الناس أمة واحدة على الإيمان، ولما كان مجتمع المدينة مجتمعًا بشريًّا يصلح لأن يكون أسوة لمجتمعاتنا وأفراده قدوة لأفرادنا في كل ما يعتريهم من أحوالٍ كالسرور والهم واليسر والعسر والصحة والمرض.

القصة إذًا محتملة لوجوه، وتطرق الاحتمال القوي يكفي لإسقاط الاستدلال بوقائع الأعيان، ونحن نرى هنا احتمالات قوية، ولذا لا أرى أن يستدل بها على جواز ترك التداوي بإطلاق، وإن كان فيها مُتمسَّك لمن يمنع من وجوب التداوي بإطلاق.

٢ - ترك كثير من السلف للتداوي من غير إنكار عليهم، قال الإمام ابن تَيمِيَّة -رحمه الله-: «ولأن خلقًا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون بل فيهم من اختار المرض كأبي بن كعب وأبي ذر ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي» (١).

وعدم إنكار الصحابة على بعضهم ترك التداوي دليل على عدم وجوبه. ولعل ذلك إن جاز من الصحابة في زمانهم، فلا ينبغي أن يجوز في زماننا. وذلك للفرق بين الدواء في زمانهم وزماننا، فإنه لا ينكر عاقل ما صار إليه الطب في زماننا من تقدم هائل، حتى يمكن أن نقطع بأن هذا الدواء ينفع هذا المرض (٢) بإذن الله، كما يقطع


(١) «مَجْمُوع الفَتَاوَى» لابن تَيمِيَّة (٤/ ٢٦٥).
(٢) من أمثلة ذلك بعض الأمراض الخمجية في استجابتها للمضادات الحيوية وكذلك استجابة الربو الصدري لموسعات الشعب. ولكل قاعدة شواذ ولكن لا عبرة بالنادر.

<<  <   >  >>