وتنعموا بالبؤس في الأسفار، مع مُساكنة العلم والأخبار، وقنعوا عند جَمْع الأحاديث والآثار، بوجود الكسر والأطمار، رفضوا الإلحاد الذي تتوق إليه النفوس الشهوانية، وتوابع ذلك من البدع والأهواء والمقاييس والآراء الشيطانية، جعلوا المساجد بيوتهم، وأساطينها تكاءهم، وبَوَاريها فرشهم، أصحاب الحديث وحملته، وصيارفته وحفظته، خير الناس، نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاءهم الكتابة، وسمرهم المعارضة، واسترواحهم المذاكرة، وخلوقهم المِدار، ونومهم السهاد، واصطلاءهم الضياء، وتوسدهم الحصى، فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس، فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضا في الأحوال عامرة، تَعلُّم السُّنن سرورهم، ومجالس العلم حبورهم (١)، ولله در القائل فيهم:
علم الحديث أجلَّ علم يُذكرُ ... وله خصائصُ فضلُها لا يُنكرُ
ورجالُه أهل الزَّهادة والتُّقى ... وهم بتحقيق المناقب أجدرُ
وقفوا نفوسهم عليه فحدُّهم ... لاينثني ودؤوبهم لايَفْتُرُ
ينفون عنه إفك كلِّ معاند ... بدلائل متلألئاتٍ تُزهِرُ
ويميزون صحيحه وسقيمه ... بمقالةٍ تبيانها لا يُقْصَرُ
لله درُّهم رجالًا ما لهم ... في هذه الدنيا مبان تُعمرُ
في الله محياهم وفيه مماتهم ... وهم على كلف المشقَّة صُبَّرُ
قنعوا بِمُجْزئ قوتهم من دارهم ... ورضوا بأطمارٍ رثاثٍ تسترُ
ماضرهم مافات من دنياهم ... فلذيذ عيشهمُ الهنيء مؤخرُ