للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ النَّدْبُ لِاشْتِمَالِ ذَاتِهِ عَلَى خُضُوعِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَإِظْهَارِ ذِلَّتِهِ وَافْتِقَارِهِ إلَى مَوْلَاهُ فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ مَا يُوجِبُهُ أَوْ يُحَرِّمُهُ وَالتَّحْرِيمُ قَدْ يَنْتَهِي لِلْكُفْرِ، وَقَدْ لَا يَنْتَهِي

فَاَلَّذِي يَنْتَهِي لِلْكُفْرِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي نَفْيَ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْقَاطِعُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:

(الْأَوَّلُ) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُعَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بِك أَوْ اغْفِرْ لَهُ، وَقَدْ دَلَّتْ الْقَوَاطِعُ السَّمْعِيَّةُ عَلَى تَعْذِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ مَاتَ كَافِرًا بِاَللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: ٤٨] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِتَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَلَبُ ذَلِكَ كُفْرٌ فَهَذَا الدُّعَاءُ كُفْرٌ.

(الثَّانِي) أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا تُخَلِّدْ فُلَانًا الْكَافِرَ فِي النَّارِ، وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ الْقَاطِعَةُ عَلَى تَخْلِيدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ فَيَكُونُ الدَّاعِي طَالِبًا لِتَكْذِيبِ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ كُفْرٌ.

(الثَّالِثُ) أَنْ يَسْأَلَ الدَّاعِي اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِيحَهُ مِنْ الْبَعْثِ حَتَّى يَسْتَرِيحَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ بَعْثِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الثَّقَلَيْنِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ كُفْرًا؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِتَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ.

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

وَذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ وُقُوعُهُ سَمْعًا طَلَبٌ لِتَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَلَبُ ذَلِكَ كُفْرٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ طَلَبَ التَّكْذِيبِ لَيْسَ بِتَكْذِيبٍ بَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَجْوِيزِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ فَلَيْسَ بِمُسْتَلْزِمٍ لِذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ تَجْوِيزَ التَّكْذِيبِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّكْذِيبَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَكْذِيبُ زَيْدٍ لِعَمْرٍو وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِعَمْرٍو وَلَا مُجَوِّزًا لِكَذِبِهِ. هَذَا إنْ كَانَ قَصْدُهُ مُقْتَضَى لَفْظِ تَكْذِيبٍ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الْكَذِبَ وَوَضَعَ لَفْظَ تَكْذِيبٍ مَوْضِعَ لَفْظِ كَذِبٍ فَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِصَحِيحٍ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُكَذِّبَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لَهُ بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُجَوِّزًا لِوُقُوعِ الْكَذِبِ مِنْهُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ طَلَبَ الْمُسْتَحِيلِ إنَّمَا يَكُونُ تَكْفِيرُ مَنْ يَلْزَمُ مِنْ دُعَائِهِ ذَلِكَ تَكْفِيرًا بِالْمَآلِ، وَقَدْ حَكَى هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَاخْتَارَ هُوَ عَدَمَ التَّكْفِيرِ فَجَزْمُهُ بِتَكْفِيرِ الدَّاعِي بِذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْمَآلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ.

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْمُتَطَيِّرِينَ كَشِرَاءِ الصَّابُونِ يَوْمَ السَّبْتِ فَالْخَوْفُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَرَامٌ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ» فَالطِّيَرَةُ فِيهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ سُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكَادُ الْمُتَطَيِّرُ يَسْلَمُ مِمَّا تَطَيَّرَ مِنْهُ إذَا فَعَلَهُ جَزَاءً لَهُ عَلَى سُوءِ ظَنِّهِ.

وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُسِئْ ظَنَّهُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - لَا يُصِيبُهُ مِنْهُ بَأْسٌ فَمِنْ هُنَا لَمَّا سَأَلَ بَعْضُ الْمُتَطَيِّرِينَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لَهُ: إنَّنِي لَا أَتَطَيَّرُ فَلَا يَنْخَرِمُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يَقَعُ الضَّرَرُ بِي وَغَيْرِي يَقَعُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَلَا يَجِدُ مِنْهُ ضَرَرًا وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَهَلْ لِهَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ، قَالَ لَهُ: نَعَمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى - «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا وَأَنْتَ تَظُنُّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُؤْذِيَك عِنْدَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَطَيَّرْت مِنْهُ فَتُسِيءُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُقَابِلُك اللَّهُ عَلَى سُوءِ ظَنِّك بِهِ بِإِذَايَتِكَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَطَيَّرْت بِهِ وَغَيْرُك لَا يُسِيءُ ظَنَّهُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فَلَا يَتَضَرَّرُ. اهـ.

(وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ) مَا لَمْ يَتَمَحَّضْ بِهِ حُصُولُ ضَرَرٍ لَا بِالْعَادَةِ الِاطِّرَادِيَّةِ وَلَا الْأَكْثَرِيَّةِ، وَلَا عَدَمُ حُصُولِهِ أَصْلًا بَلْ اسْتَوَى بِهِ الْحُصُولُ، وَعَدَمُهُ كَالْجَرَبِ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ اُسْتُشْهِدَ عَلَى الْعَدْوَى بِإِعْدَاءِ الْبَعِيرِ الْأَجْرَبِ لِلْإِبِلِ «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ» .

وَهُوَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ الْمُسْكِتَةِ إذْ لَوْ جَلَبَتْ الْأَدْوَاءُ بَعْضَهَا بَعْضًا لَزِمَ فَقْدُ الدَّاءِ الْأَوَّلِ لِفَقْدِ الْجَالِبِ فَاَلَّذِي فَعَلَهُ فِي الْأَوَّلِ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الثَّانِي.

وَهُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْعَزِيزِيِّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَالْوَرَعُ تَرْكُ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ حَذَرًا مِنْ الطِّيَرَةِ وَالْمَرَضِ الَّذِي مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كَالْجَرَبِ هُوَ الْمُرَادُ بِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ فِيمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْقَبَسِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عَدْوَى» مَعْنَاهُ قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: لَا يُعْدِي خِلَافًا لِمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُهُ فَبَيَّنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - اهـ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ الْأَمْرَاضِ بِدَلِيلِ تَحْذِيرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْوَبَاءِ وَالْقُدُومِ عَلَى بَلَدٍ هُوَ فِيهِ اهـ قَالَ الْأَصْلُ: وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّ عَوَائِدَ اللَّهِ إذَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ كَمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَاءَ مُرٌّ وَإِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَالْمُمْرِضُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَحُلُّ عَلَى الْمُمْرِضِ الْمُصِحُّ» هُوَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ الْمَرِيضَةِ وَالْمُصِحُّ هُوَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ الصَّحِيحَةِ قَالَ ابْنُ دِينَارٍ وَمَعْنَى الْمُمْرِضِ الْمُصِحُّ بِإِيرَادِ مَاشِيَةٍ عَلَى مَاشِيَتِهِ فَيُؤْذِيهِ بِذَلِكَ فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ لَا عَدْوَى وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَحُلُّ الْمَجْذُومُ مَحَلَّ الصَّحِيحِ مَعَهُ يُؤْذِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْدِي فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الضَّرَرِ لَا مِنْ الْعَدْوَى.

وَقِيلَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>