للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ نِصْفَ اللَّيْلِ عِنْدَ الْبِلَادِ الْمَشْرِقِيَّةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ قُرْبِ ذَلِكَ الْقُطْرِ مِنْ الْقُطْرِ الَّذِي غَرَبَتْ فِيهِ الشَّمْسُ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَوْقَاتِ تَخْتَلِفُ هَذَا الِاخْتِلَافَ.

وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الْفَتَاوَى الْفِقْهِيَّةِ مَسْأَلَةٌ أَشْكَلَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَخَوَيْنِ مَاتَا عِنْدَ الزَّوَالِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ أَيُّهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ فَأَفْتَى الْفُضَلَاءُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمَغْرِبِيَّ يَرِثُ الْمَشْرِقِيَّ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ زَوَال الْمَغْرِبِ فَالْمَشْرِقِيُّ مَاتَ أَوَّلًا فَيَرِثُهُ الْمُتَأَخِّرُ لِبَقَائِهِ بَعْدَهُ حَيًّا مُتَأَخِّرَ الْحَيَاةِ فَيَرِثُ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ إذَا تَقَرَّرَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآفَاقِ، وَأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْأَهِلَّةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْبِلَادَ الْمَشْرِقِيَّةَ إذَا كَانَ الْهِلَالُ فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتْ الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِلُ الشَّمْسُ إلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إلَّا وَقَدْ خَرَجَ الْهِلَالُ مِنْ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَلَا يَرَاهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ اخْتِلَافِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا هَاهُنَا إنَّمَا ذَكَرْت مَا يَقْرُبُ فَهْمُهُ، وَإِذَا كَانَ الْهِلَالُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآفَاقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ فِي الْأَهِلَّةِ كَمَا أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فَجْرَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا حَقٌّ ظَاهِرٌ وَصَوَابٌ مُتَعَيِّنٌ أَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِقُطْرٍ مِنْهَا فَبَعِيدٌ عَنْ الْقَوَاعِدِ، وَالْأَدِلَّةُ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ فَاعْلَمْهُ.

(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّلَوَاتُ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ تَنْعَقِدُ قُرْبَةً بِخِلَافِ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ)

أَمَّا الصَّلَوَاتُ فَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَنْعَقِدُ قُرْبَةً، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ فَسَوَّى بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَلَا فَرْقَ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ أُعَزِّيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ عَسَاهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّعْزِيَةِ فَلَمَّا رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك يَا أَبَا الْفَضْلِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَأَنْشَدَهُ:

اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ فَإِنَّمَا ... صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ

خَيْرٌ مِنْ الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ ... وَاَللَّهُ خَيْرٌ مِنْك لِلْعَبَّاسِ

فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سَرَّى عَنْهُ عَظِيمَ مَا كَانَ بِهِ، وَاسْتَرْسَلَ النَّاسُ فِي تَعْزِيَتِهِ وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاءِ مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ مُحْسِنٌ لِتَصَرُّفِ الْقَضَاءِ مُثْنٍ عَلَى الرَّبِّ بِإِحْسَانٍ وَجَمِيلِ الْعَوَارِفِ، فَهَذَا حَسَنٌ جَمِيلٌ وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعَ أَهْلُ بَيْتِهِ قَائِلًا يَقُولُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إنَّ فِي اللَّهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ ذَاهِبٍ فَإِيَّاهُ فَارْجُوَا وَبِهِ فَثِقُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ فَكَانُوا يَرَوْنَهُ الْخَضِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهَذَا أَيْضًا كَلَامٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ وَمُنْدَرِجٌ فِي سِلْكِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ مَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ النُّوَاحَاتِ وَالْمَرَاثِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ فِعْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ لَا يُعَذَّبُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّت يُعَذَّبُ بِهِ الْمَيِّتُ]

الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ فِعْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ لَا يُعَذَّبُ بِهِ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِهِ الْمَيِّتُ) لَمَّا أَشْكَلَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَعَارَضَهَا ظَاهِرُ مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الصِّحَاحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ» ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى رَدِّ الْبُكَاءِ فِيهِ إلَى فِعْلِ الْمَيِّتِ إمَّا بِحَمْلِهِ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ بِالنِّيَاحَةِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ:

إذَا مِتَّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ

وَإِمَّا بِحَمْلِهِ عَلَى مَا كَانَ يُبَاشِرُهُ الْمَيِّتُ حَالَ حَيَاتِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَنَحْوِ الْغَضَبِ وَالْفُسُوقِ مِنْ الْمَفَاخِرِ الَّتِي كَانُوا يَذْكُرُونَهَا فِي نَوَائِحِهِمْ، وَهِيَ مَجَازٌ عِنْدَ الشَّرْعِ فَيُعَذَّبُ بِهَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِمَدْلُولِ مَا يَقَعُ فِي الْبُكَاءِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَجَازُ الْعِلَاقَةِ الْمَلْزُومِيَّةِ بِوَاسِطَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُلَازِمُ مَدْلُولَهُ وَالْبُكَاءَ يُلَازِمُ هَذَا اللَّفْظَ «فَقَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ إنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّكُمْ لَتَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» مَعْنَاهُ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إنَّمَا عُذِّبَتْ فِي قَبْرِهَا بِكُفْرِهَا لَا بِبُكَاءِ أَهْلِهَا، وَذَهَبَ الْأَصْلُ إلَى أَنَّهُمَا قَاعِدَتَانِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ بَاقٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَاتَ لَهَا وَلَدٌ فَرَحَلَتْ فِي بَعْضِ مَقَاصِدِهَا إلَى الْمَغْرِبِ فَحَضَرَ يَوْمُ الْعِيدِ وَعَادَتُهَا فِيهِ فِي بَلَدِهَا تَخْرُجُ إلَى الْمَقَابِرِ فَتَبْكِي عَلَى وَلَدِهَا فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ فِي بَلَدِهَا خَطَرَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَقَابِرِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِهَا فَتَفْعَلُ فِيهَا مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ فِي بَلَدِهَا فَخَرَجَتْ إلَيْهَا، وَفَعَلَتْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَتْ الْبُكَاءَ وَالْعَوِيلَ وَالتَّفَجُّعَ عَلَى وَلَدِهَا، ثُمَّ نَامَتْ فَرَأَتْ أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ هَاجُوا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا هَلْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا وَلَدٌ فَقَالُوا لَا فَقَالَ السَّائِلُ مِنْهُمْ لِلْمَسْئُولِ فَكَيْفَ جَاءَتْ عِنْدَنَا تُؤْذِينَا بِبُكَائِهَا وَعَوِيلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدَنَا وَلَدٌ، ثُمَّ ذَهَبُوا إلَيْهَا فَضَرَبُوهَا ضَرْبًا وَجِيعًا فَاسْتَيْقَظَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>