مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ وَالْخَبَرَ لَيْسَ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ فَإِنَّ الْعُقُودَ أَسْبَابٌ لِمَدْلُولَاتِهَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا، وَالْأَخْبَارُ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا أَمَّا تَبَعِيَّةُ مَدْلُولِ الْإِنْشَاءَاتِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَالْمِلْكَ مَثَلًا إنَّمَا يَقَعَانِ بَعْدَ صُدُورِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْخَبَرَ تَابِعٌ لِمُخْبِرِهِ فَنَعْنِي بِالتَّبَعِيَّةِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِتَقَرُّرِ مُخْبِرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَقَوْلُنَا قَامَ زَيْدٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَقَوْلُنَا هُوَ قَائِمٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الْحَالِ، وَقَوْلُنَا سَيَقُومُ السَّاعَةَ تَبَعٌ لِتَقَرُّرِ قِيَامِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّبَعِيَّةِ التَّبَعِيَّةَ فِي الْوُجُودِ، وَإِلَّا لَمَا صُدِّقَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَاضِي فَقَطْ فَإِنَّ الْحَاضِرَ مُقَارِنٌ فَلَا تَبَعِيَّةَ لِحُصُولِ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُسْتَقْبَلُ وُجُودُهُ بَعْدَ الْخَبَرِ فَكَانَ مَتْبُوعًا لَا تَابِعًا فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُضَلَاءِ: الْخَبَرُ تَابِعٌ لِمُخْبِرِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: الْعِلْمُ تَابِعٌ لِمَعْلُومِهِ أَيْ تَابِعٌ لِتَقَرُّرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ الْمَعْلُومُ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَإِنَّا نَعْلَمُ الْحَاضِرَاتِ وَالْمُسْتَقْبِلَات كَمَا نَعْلَمُ الْمَاضِيَاتِ، وَالْعِلْمُ فِي الْجَمِيعِ تَبَعٌ لِمَعْلُومِهِ فَالْعِلْمُ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا فَرْعٌ وَتَابِعٌ لِتَقَرُّرِ طُلُوعِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا صَدَقَ وَلَا كَذَبَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ.
وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي حَدِّ الْخَبَرِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقَعُ إلَّا مَنْقُولًا عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ يَقَعُ إنْشَاءٌ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنَّهَا تُنْشِئُ الطَّلَبَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ، وَالْخَبَرُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يُفِيدُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا، وَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ كَمَا يَتَّفِقُ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إذَا سَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إعْلَامًا لَهَا بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ فَهَذَا هُوَ أَصْلُ الصِّيغَةِ، وَإِنَّمَا صَارَتْ تُفِيدُ الطَّلَاقَ بِسَبَبِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ عَنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذِهِ الصِّيَغِ
(تَنْبِيهٌ)
اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَهُمَا اسْتَفَادَهُ الْخَبَرُ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَأَنَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ) قُلْت كَلَامُهُ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ ظَاهِرٌ مُسْتَقِيمٌ.
قَالَ: (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقَعُ إلَّا مَنْقُولًا عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ يَقَعُ إنْشَاءٌ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنَّهَا تُنْشِئُ الطَّلَبَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ، وَالْخَبَرُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يُفِيدُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ، بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا، وَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ كَمَا يُتَّفَقُ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إذَا سَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إعْلَامًا لَهَا بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ) قُلْت لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بَلْ يَقَعُ غَيْرَ مَنْقُولٍ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ لَكِنْ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ بِرُجْحَانِ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (تَنْبِيهٌ
اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَهُمَا اسْتِفَادَةُ الْخَبَرِ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَأَنَّ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْعَدَدَ لَيْسَ بَابُهُ مُنْسَدًّا فَيَقْدِرُ الْخَصْمُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَلَوْ بِالزُّورِ، وَالْحَاكِمُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَوْ رَجَّحْنَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لَطَالَ النِّزَاعُ وَانْتَشَرَ الشَّغَبُ وَبَطَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِشَرْعِ الْحُكُومَاتِ مِنْ دَرْءِ الْخُصُومَاتِ وَرَفْعِ الْمَظَالِمِ وَالْمُنَازَعَاتِ إذْ يُمْكِنُ لِلْخَصْمِ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَزِيدُ فِي عَدَدِ بَيِّنَتِي فَنُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدَدٍ آخَرَ فَإِذَا أَتَى بِهِ قَالَ خَصْمُهُ أَنَا أَزِيدُ فِي الْعَدَدِ الْأَوَّلِ فَنُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدَدٍ آخَرَ أَيْضًا، وَهَكَذَا وَالْأَعْدَلِيَّةُ لَا تُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ الْحَاكِمِ فَلَا تَسَلُّطَ لِلْخَصْمِ عَلَى زِيَادَتِهِ فَانْسَدَّ الْبَابُ، وَلَمْ تَنْتَشِرْ الْخُصُومَاتُ وَلَمْ يَطُلْ زَمَانُهَا.
(الْمُهِمُّ الثَّانِي) كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ خَبَرٌ مُقَيَّدٌ بِمَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ الدَّعْوَى خَبَرٌ عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ وَيُضَرُّ بِهِ وَحْدَهُ عَكْسُ الدَّعْوَى الضَّارَّةِ لِغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ لَا نَعْتَبِرُ مِنْ الْإِقْرَارِ الْمُرَكَّبِ مِنْ إضْرَارِ الْمُخْبِرِ وَإِضْرَارِ غَيْرِهِ كَإِقْرَارِهِ بِأَنَّ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ حُرَّانِ إلَّا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَنُسْقِطُ مِنْهُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ وَالنَّتِيجَةُ خَبَرٌ يَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ وَقَبْلَ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ يُسَمَّى مَطْلُوبًا وَالْمُقَدِّمَةُ خَبَرٌ هُوَ جُزْءُ دَلِيلٍ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى تَكْذِيبًا كَمَا يُسَمَّى تَصْدِيقًا؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِقَائِلِهِ صَدَقْتَ أَوْ كَذَبْتَ إلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ بِأَحْسَنِ عَارِضَيْهِ لَفْظًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ) الَّذِي هُوَ جِنْسُ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالدَّعْوَى وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا، أَمَّا الْخَبَرُ فَمَجَازٌ فِي الْإِشَارَاتِ الْحَالِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ عَيْنَاكَ تُخْبِرُنِي بِكَذَا، وَالْغُرَابُ يُخْبِرُ بِكَذَا وَحَقِيقَتُهُ قَوْلٌ يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ.
(قُلْتُ) قَالَ الْآمِدِيُّ وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي الصِّيغَةِ كَقَوْلِك: قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ عُمَرُ وَلِتَبَادُرِهَا إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالصِّيغَةِ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ مُطَابَقَةُ النِّسْبَةِ الْكَلَامِيَّةِ لِلْخَارِجِيَّةِ.
وَالْكَذِبَ عَدَمُهَا وَلَيْسَ الصِّدْقُ الْخَبَرَ الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ وَلَا الْكَذِبُ الْخَبَرَ الْغَيْرَ الْمُطَابِقِ لَهُ حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ وَالْحُكْمُ فِي الْحَدِّ