بَلْ طِفْلًا لِأَجْلِ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ وَإِلَّا فَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ وِلَادَتَهُ كَذَلِكَ، وَالْقَطْعُ الْحَاصِلُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْعَادَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِالْحِسَابِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا غَايَةَ بَعْدَ حُصُولِ الْقَطْعِ وَالْفَرْقُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا وَهُوَ عُمْدَةُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبَ وُجُوبِ الظُّهْرِ.
وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَوْقَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: ٧٨] أَيْ لِأَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: ١٧] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: ١٨] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حِينَ تُمْسُونَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الصُّبْحُ وَعَشِيًّا الْعَصْرُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى سُبْحَةً، وَمِنْهُ سُبْحَةُ الضُّحَى أَيْ صَلَاتُهَا فَالْآيَةُ أَمْرٌ بِإِيقَاعِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْوَقْتِ سَبَبٌ فَمَنْ عَلِمَ السَّبَبَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ لَزِمَهُ حُكْمُهُ، فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْحِسَابُ الْمُفِيدُ لِلْقَطْعِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ،.
وَأَمَّا الْأَهِلَّةُ فَلَمْ يَنْصِبْ صَاحِبُ الشَّرْعِ خُرُوجَهَا مِنْ الشُّعَاعِ سَبَبًا لِلصَّوْمِ بَلْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ خَارِجًا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ هُوَ السَّبَبُ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَحْصُلْ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يَنْصِبْ نَفْسَ خُرُوجِ الْهِلَالِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ سَبَبًا لِلصَّوْمِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَلَمْ يَقُلْ لِخُرُوجِهِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: ٧٨] ثُمَّ قَالَ «فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ» أَيْ خَفِيَتْ عَلَيْكُمْ رُؤْيَتُهُ «فَاقْدِرُوا لَهُ» فِي رِوَايَةٍ «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» فَنَصَبَ رُؤْيَةَ الْهِلَالَ أَوْ إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِخُرُوجِ الْهِلَالِ عَنْ الشُّعَاعِ،.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ شَهِدَ لَهَا ثَلَاثُ مَعَانٍ شَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ وَمِنْهُ شَهِدْنَا صَلَاةَ الْعِيدِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَشَهِدَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ الْمَسَاجِدِ تُعَظَّمُ بِالصَّلَاةِ وَبَيْن قَاعِدَة الْأَزْمِنَةِ الْمُعَظَّمَةِ]
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ الْمَسَاجِدِ تُعَظَّمُ بِالصَّلَاةِ، وَيَتَأَكَّدُ طَلَبُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُلَابَسَتِهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَظَّمَةِ كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَا تُعَظَّمُ بِتَأَكُّدِ الصَّوْمِ فِيهَا) الْبِقَاعُ الْمُعَظَّمَةُ وَالْأَزْمِنَةُ وَإِنْ اشْتَرَكَتَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ نِسْبَةَ الصَّلَوَاتِ إلَى مُطْلَقِ الْبِقَاعِ كَمَا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهَا فِيهَا كَذَلِكَ نِسْبَةُ الصَّوْمِ إلَى مُطْلَقِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ فِيهَا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ الْبِقَاعِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ كَمَا اُخْتُصَّتْ بِأَنَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَلَبَ الشَّارِعُ تَعْظِيمَهَا بِالتَّحِيَّاتِ مِمَّنْ دَخَلَهَا كَذَلِكَ اخْتَصَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ، وَهُوَ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ بِهِ تَعَالَى وَطَلَبَ الشَّارِعُ تَعْظِيمَهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ الثُّلُثَ الْأَخِيرَ مِنْ اللَّيْلِ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَعَالَى فِيهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ» إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَتَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُطْلَقَ الْبِقَاعِ لَمْ يَقَعْ مِنْهَا مَا يُصَامُ فِيهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْعَرْضِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِمَكَّةَ جَبْرًا لِمَا عَرَضَ مِنْ النُّسُكِ وَصَوْمِ أَيَّامِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَا عَرَضَ مِنْ الِاعْتِكَافِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْهَا مَا يُصَلَّى فِيهِ لِعَيْنِهِ كَالْمَسَاجِدِ تُصَلَّى فِيهَا النَّجِيَّةُ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْأَزْمِنَةِ فَوَقَعَ مِنْهَا مَا يُصَامُ فِيهِ لِعَيْنِهِ لَا لِمَا عَرَضَ فِيهِ كَرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، وَوَقَعَ مِنْهَا مَا يُصَلَّى فِيهِ لِعَيْنِهِ لَا لِمَا عَرَضَ فِيهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَنَحْوِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالضُّحَى، فَالصَّوْمُ بِوَصْفِهِ خَاصٌّ بِالزَّمَانِ، وَالصَّلَاةُ كَمَا تَكُونُ لِلْمَكَانِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ تَكُونُ لِلزَّمَانِ كَالصَّلَوَاتِ وَنَحْوِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالضُّحَى فِي أَوْقَاتِهَا.
وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبِقَاعَ الْمُعَظَّمَةَ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ لَمَّا اُخْتُصَّتْ بِاَللَّهِ وَاشْتُهِرَتْ بِاسْمٍ يُنَاسِبُ اخْتِصَاصَهَا بِهِ تَعَالَى وَهُوَ لَفْظُ الْبُيُوتِ فَإِنَّ شَأْنَ الرَّئِيسِ وَالْمَلِكِ الْعَظِيمِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ احْتَاجَتْ إلَى تَمْيِيزٍ يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى يُنَاسِبُ رُبُوبِيَّتَهُ عَلَى قَدْرِ مَا فِي وُسْعِنَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ غَنِيًّا عَنْ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا تَزِيدُهُ طَاعَتُهُمْ وَلَا تُنْقِصُهُ مَعْصِيَتُهُمْ، وَكَانَ الْأَدَبُ مَعَهُ اللَّائِقُ بِجَلَالِهِ مُتَعَذِّرًا مِنَّا، وَقَدْ أَمَرَنَا تَعَالَى أَنْ نَتَأَدَّبَ مَعَهُ كَمَا نَتَأَدَّبُ مَعَ أَكَابِرِنَا؛ لِأَنَّهُ وَسِعَنَا وَكَانَ أَحَدُنَا إذَا مَرَّ بِبُيُوتِ الْأَكَابِرِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ بِالتَّحِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ.
وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إمَّا بِالسَّلَامَةِ وَهُوَ تَعَالَى سَالِمٌ لِذَاتِهِ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ، وَإِمَّا بِالْمُسَالَمَةِ وَهِيَ التَّأْمِينُ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ تَعَالَى يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ أَمَرَنَا تَعَالَى بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْمَدْحِ لَهُ وَإِكْرَامِ خَاصَّتِهِ وَعَبِيدِهِ وَأَنْ نَقُولَ لَهُ تَعَالَى أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ وَإِلَيْك يَعُودُ السَّلَامُ حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ، أَيْ أَنْتَ السَّالِمُ لِذَاتِك وَمِنْك يَصْدُرُ السَّلَامُ لِعِبَادِك وَإِلَيْك يَرْجِعُ طَلَبُهَا فَاعْطِنَا إيَّاهَا فَلَمَّا اسْتَحَالَ السَّلَامُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ مَقَامَهُ لِيَتَمَيَّزَ بَيْتُ الرَّبِّ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوتِ بِصُورَةِ التَّعْظِيمِ بِمَا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ نَابَتْ الْفَرِيضَةُ عَنْ النَّافِلَةِ فِي ذَلِكَ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِهَا.
وَأَمَّا الْأَزْمِنَةُ الْمُعَظَّمَةُ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَنَحْوُهَا فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى شُهْرَةَ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى تَمْيِيزٍ يَخْتَصُّ بِهِ يُنَاسِبُ الرُّبُوبِيَّةَ كَمَا احْتَاجَتْ الْمَسَاجِدُ لِذَلِكَ بِسَبَبِ اشْتِهَارِهَا بِاَللَّهِ تَعَالَى الشُّهْرَةَ