وَالشَّأْنِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَوْ ادَّعَى عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَدْنَاهُمْ دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَهُوَ مُدَّعٍ، وَالْمَطْلُوبُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَكْسُهُ لَوْ ادَّعَى الطَّالِحُ عَلَى الصَّالِحِ لَكَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْنَا، وَيُجِيبُ عَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فَهُوَ نَقْضٌ عَلَى قَوْلِنَا الْمُدَّعِي مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ أَصْلًا أَوْ عُرْفًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ أَصْلًا أَوْ عُرْفًا فَإِنَّ الْعُرْفَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ شَاهِدٌ، وَكَذَلِكَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ أُلْغِيَا إجْمَاعًا فَكَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْحُدُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَنَقْصًا عَلَى الْمَذْهَبِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ
(تَنْبِيهٌ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إذَا تَعَارَضَا الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِلْغَاءِ الْغَالِبِ فِي دَعْوَى الدِّينِ وَنَحْوِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَصْلَحَ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ الْغَالِبِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ إلَّا مَالَهُ فَهَذَا الْغَالِبُ مُلْغًى إجْمَاعًا، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَقْدِيمِ الْغَالِبِ وَإِلْغَاءِ الْأَصْلِ فِي الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَأُلْغِيَ الْأَصْلُ هُنَا إجْمَاعًا عَكْسُ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْخِلَافُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
(تَنْبِيهٌ) خُولِفَتْ قَاعِدَةُ الدَّعَاوَى فِي خَمْسِ مَوَاطِنَ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الطَّالِبِ (أَحَدُهَا) اللِّعَانُ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْفِي عَنْ زَوْجِهِ الْفَوَاحِشَ فَحَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى رَمْيِهَا بِالْفَاحِشَةِ مَعَ إيمَانِهِ أَيْضًا قَدَّمَهُ الشَّرْعُ (وَثَانِيهَا) الْقَسَامَةُ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الطَّالِبِ لِتَرَجُّحِهِ بِاللَّوْثِ، وَ (ثَالِثُهَا) قَبُولُ قَوْلِ الْأُمَنَاءِ فِي التَّلَفِ لِئَلَّا يُزْهَدَ فِي قَبُولِ الْأَمَانَاتِ فَتَوَقَّفَ مَصَالِحُهَا الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَاتِ
(وَرَابِعُهَا) يَقْبَلُ قَوْلَ الْحَاكِمِ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ لِئَلَّا تَفُوتَ الْمَصَالِحُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْوِلَايَةِ لِلْأَحْكَامِ.
(وَخَامِسُهَا) قَبُولُ قَوْلِ الْغَاصِبِ فِي التَّلَفِ مَعَ يَمِينِهِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ لِئَلَّا يَخْلُدَ فِي الْحَبْسِ ثُمَّ الْأَمِينُ قَدْ يَكُونُ أَمِينًا مِنْ جِهَةِ مُسْتَحَقِّ الْأَمَانَةِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ وَالْمُلْتَقِطِ، وَمَنْ أَلْقَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي بَيْتِهِ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْتَاجُ لِلدَّعْوَى وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا]
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْتَاجُ لِلدَّعْوَى وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا)
وَتَلْخِيصُ الْفَرْقِ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُجْمَعٌ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَتَعَيَّنَ الْحَقُّ فِيهِ، وَلَا يُؤَدِّي أَخْذُهُ لِفِتْنَةٍ، وَلَا تَشَاجُرٍ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَوْ سَكْرَانُ الْآنَ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ الْآنَ بِدِينَارٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ قَبْلَ إقْرَارِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ وَقَعَ مِنْ الْمَجْنُونِ حَالَةَ عَقْلِهِ، وَمِنْ السَّكْرَانِ حَالَةَ صَحْوِهِ، وَمِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَالَةَ إفَاقَتِهِ، وَأَنَّ شُرُوطَ الْبَيْعِ الْآنَ مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَمَنَ بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ الْآنَ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَيُحْمَلُ عَلَى حَالَةٍ تَكُونُ فِيهِ هَذِهِ الدَّارُ طَلْقًا، وَأَمَّا النَّظَائِرُ الَّتِي تَتَعَذَّرُ فِيهَا الشُّرُوطُ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدِينَارٍ مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَكُونُ فِي الْمَاضِي غَيْرَ خِنْزِيرٍ فَيَبْطُلُ الْإِقْرَارُ فِي ذَلِكَ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) إذَا أَوْصَى لِجَنِينٍ أَوْ مَلَّكَهُ فَالشَّرْطُ الْمُقَارَنَةُ، وَإِذَا أَقَرَّ لَهُ فَالشَّرْطُ تَقَدُّمُ السَّبَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ فَإِنْ حَصَلَ الشَّكُّ فِي تَقَدُّمِ الْجَنِينِ لَمْ يَلْزَمْ الْإِقْرَارُ لِأَنَّا شَكَكْنَا فِي الْمَحَلِّ الْقَابِلِ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ شَرْطٌ، وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَرَتُّبَ الْمَشْرُوطِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفُرُوقِ أَفَادَهُ الْأَصْلُ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ الشَّاطِّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ) وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ اللُّزُومَ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْإِقْرَارُ خَبَرٌ يُوجِبُ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى قَائِلِهِ فَقَطْ بِلَفْظِهِ أَوْ لَفْظِ نَائِبِهِ لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُقِرِّ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ، وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ انْقَسَمَ قِسْمَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) مَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَضَابِطُهُ مَا لَيْسَ لِلْمُقِرِّ فِي رُجُوعِهِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ إلَّا أَنَّ فِي نُفُوذِهِ تَفْصِيلًا أَشَارَ لَهُ ابْنُ عَاصِمٍ بِقَوْلِهِ:
وَمَالِكٌ لِأَمْرِهِ أَقَرَّ فِي ... صِحَّتِهِ لِأَجْنَبِيٍّ اُقْتُفِيَ
وَمَا لِوَارِثٍ فَفِيهِ اُخْتُلِفَا ... وَمَنْفَذٌ لَهُ لِتُهْمَةٍ نَفَى
وَرَأْسُ مَتْرُوكِ الْمُقِرِّ أُلْزِمَا ... وَهُوَ بِهِ فِي فَلَسٍ كَالْغُرَمَا
وَإِنْ يَكُنْ لِأَجْنَبِيٍّ فِي الْمَرَضْ ... غَيْرَ صَدِيقٍ فَهُوَ نَافِذُ الْغَرَضْ
وَلِصَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ لَا يَرِثْ ... يَبْطُلُ مِمَّنْ بِكَلَالَةٍ وَرِثْ
وَقِيلَ بَلْ يَمْضِي بِكُلِّ حَالِ ... وَعِنْدَمَا يُؤْخَذُ بِالْإِبْطَالِ
قِيلَ بِإِطْلَاقٍ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ ... يَمْضِي مِنْ الثُّلْثِ بِحُكْمٍ جَازِمِ