يُذْهِبَانِ عَنْك هَذَا اللَّبْسَ:
الْفَرْقُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ السِّحْرَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ حَتَّى أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْحِرَفِ إذَا اسْتَدْعَاهُمْ الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَرُّجِ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ تُكْتَبَ أَسْمَاءُ كُلُّ مَنْ يَحْضُرُ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ فَيَصْنَعُونَ صُنْعَهُمْ لِمَنْ يُسَمَّى لَهُمْ فَإِنْ حَضَرَ غَيْرُهُمْ لَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا رَآهُ الَّذِينَ سُمُّوا أَوَّلًا، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: ١٠٨] يَنْظُر إلَيْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَفَارَقَتْ بِذَلِكَ السِّحْرَ وَالسِّيمِيَاءَ، وَهَذَا فَرْقٌ عَظِيمٌ يَظْهَرُ لِلْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ.
الْفَرْقُ الثَّانِي مِنْ الْفَرْقَيْنِ: الظَّاهِرُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ الضَّرُورِيِّ الْمُحْتَفَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الْمَفْقُودَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَنَجِدُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَفْضَلَ النَّاسِ نَشْأَةً وَمَوْلِدًا، وَمَزِيَّةً وَخَلْقًا وَخُلُقًا وَصِدْقًا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَنَّ السِّحْرَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ إلَخْ) قُلْتُ: إنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ جَرَّبَهُ وَتَكَرَّرَتْ مِنْهُ التَّجْرِبَةُ وَقَلَّ مَنْ يُجَرِّبُهُ. قَالَ: (الْفَرْقُ الثَّانِي مِنْ الْفَرْقَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ إلَخْ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ وَكَمَا هُوَ أَعْنِي الِاتِّصَافَ بِالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ دُونَ الْمَذْمُومَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ فَهُوَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّبِيِّ وَبَيْنَهُ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ بِالتَّحَدِّي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ تَحَدِّي الْوَلِيِّ بِالْوِلَايَةِ وَالتَّحَدِّي بِالنُّبُوَّةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَحَدِّيَ الْوَلِيِّ بِالْوِلَايَةِ وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَتَيْنِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ الْخَامِسِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْمِائَتَانِ صَحِيحٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَالَ ابْنُ الْغَرْسِ هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فِيمَا لَا يَحْضُرُهُ الْبَيِّنَاتُ.
وَكَوْنُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ لَا تَلْزَمُنَا لَا يَسْلَمُ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ لِفَائِدَةٍ فِيهِ وَمَنْفَعَةٍ لَنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: ٩٠] فَآيَةُ يُوسُفَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مُقْتَدًى بِهَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَوَاضِعُ مِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِمُوجِبِ اللَّوْثِ فِي الْقَسَامَةِ، وَجَوَّزَ لِلْمُدَّعِينَ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّوا دَمَ الْقَتِيلِ فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُ قُتِلَ فِي بَلَدِهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُ الْيَهُودِ أَوْ أَنَّهُ قَدْ قَامَ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ، وَلَكِنْ جَهِلُوا عَيْنَ الْقَاتِلِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَبْعُدُ إثْبَاتُهُ لَوْثًا فَلِذَلِكَ جَرَى حُكْمُ الْقَسَامَةِ فِيهِ وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ الْأَسْرَى مِنْ قُرَيْظَةَ لَمَّا حَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ فَكَانَ بَعْضُهُمْ عُدْمَ الْبُلُوغِ فَكَانَ الصَّحَابَةُ يَكْشِفُونَ عَنْ مُؤْتَزِرِهِمْ فَيَعْلَمُونَ بِذَلِكَ الْبَالِغَ مِنْ غَيْرِهِ. وَذَلِكَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْأَمَارَاتِ وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمُلْتَقِطَ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ إلَى وَاصِفِهَا، وَجَعَلَ وَصْفَهُ لِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا قَائِمًا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ وَمِنْهَا حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْقَافَةِ، وَجَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ. وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا مُجَرَّدُ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَا عَفْرَاءَ تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا قَالَا لَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِمَا قَالَ لِأَحَدِهِمَا هَذَا قَتَلَهُ، وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الزُّبَيْرَ بِعُقُوبَةِ الَّذِي اتَّهَمَهُ بِإِخْفَاءِ كَنْزِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ فَلَمَّا ادَّعَى أَنَّ النَّفَقَةَ وَالْحُرُوبَ أَذْهَبَتْهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ بِالْعُرَنِيِّينَ مَا فَعَلَ بِنَاءً عَلَى شَاهِدِ الْحَالِ، وَلَمْ يَطْلُبْ بَيِّنَةً بِمَا فَعَلُوا، وَلَا وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى إقْرَارِهِمْ، وَمِنْهُ حُكْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ مُتَوَفِّرُونَ بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، وَلَا زَوْجَ لَهَا، وَقَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَرَدْت السَّفَرَ إلَى خَيْبَرَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جِئْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا فَإِذَا طَلَبَ مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ» فَأَقَامَ الْعَلَامَةَ مُقَامَ الشَّهَادَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيَهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» فَجَعَلَ صُمَاتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ.
وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ وَمِنْهَا حُكْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ قَاءَهَا اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اهـ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْحُجَّةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ الْيَدُ فِي الشَّهَادَةِ]
(الْبَابُ السَّادِسَ عَشَرَ) فِي بَيَانِ الْحُجَّةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ الَّتِي هِيَ الْيَدُ قَالَ الْأَصْلُ وَلَيْسَ هِيَ لِلْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ بَلْ لِلتَّرْجِيحِ فَيُرَجَّحُ بِهَا إمَّا أَحَدُ الدَّعْوَتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَ الْمُدَّعَى بِهِ، وَهُوَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَبْقَى الْمُدَّعَى بِهِ