وَالْخَيْرِ بِسَبَبِ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ، وَكَمَا يُعَاقِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ يُثِيبُ أَيْضًا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا الْأُمُورُ الْمُسْتَلَذَّةُ كَمَا فِي الْجَنَّاتِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَغَيْرِهِمَا.
وَثَانِيهَا تَيْسِيرُ الطَّاعَاتِ فَيَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ مَثُوبَتَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: ٧] فَجَعَلَ الْيُسْرَى مُسَبَّبَةً عَنْ الْإِعْطَاءِ وَمَا مَعَهُ فِي الْآيَةِ وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: ٦٩] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢] {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: ٢٩] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَثَالِثُهَا تَعْسِيرُ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ وَصَرْفُهَا عَنْهُ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَإِذَا نَسِيَ الْإِنْسَانُ الْإِقَامَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ دَلَّ هَذَا الْحِرْمَانُ عَلَى أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ مَعَاصٍ سَابِقَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: ٣٠] وَفَوَاتُ الطَّاعَةِ مُصِيبَتُهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ فَإِنَّ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ طَيِّبَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتُوجِبُ لِقَائِلِهَا ثَوَابًا سَرْمَدِيًّا خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ إصَابَةِ شَوْكَةٍ أَوْ غَمٍّ يَغُمُّهُ فِي فَلَسٍ يَذْهَبُ لَهُ، وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الطَّاعَاتِ مُسَبَّبًا عَنْ الْمَعَاصِي الْمُتَقَدِّمَةِ فَحِينَئِذٍ إذَا رَأَى الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ سَأَلَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَاصِي الْمُتَقَدِّمَةِ حَتَّى لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ مِثْلُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ، فَالِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ تَرْكِ الْإِقَامَةِ لِأَجْلِ غَيْرِهَا لَا أَنَّهُ لَهَا، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَنْدُوبَاتِ إذَا فَاتَتْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ الِاسْتِغْفَارُ لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّرْكُ مِنْ ذُنُوبٍ سَالِفَةٍ لِأَجْلِ هَذِهِ التُّرُوكِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ أَمْرِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالِاسْتِغْفَارِ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ عَنْ الذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَأَنَّهَا فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِأَجْلِهَا مُطَابِقَةٌ وَفِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ لِأَجْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا أَنَّهُ لَهَا مُطَابَقَةٌ.
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تُحَلُّ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ مِمَّا وَقَعَ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِغْفَارِ عَنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ فَيُشْكِلُ ذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَنْ ذَلِكَ عَرَقٌ فَفِي نَجَاسَةِ ذَلِكَ الْعَرَقِ وَطَهَارَتِهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي رَمَادِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَيْهَا التَّغَيُّرَاتُ وَالِاسْتِحَالَاتُ.
وَأَمَّا إذَا صَارَ مَا وَرَدَ عَلَى بَاطِنِ الْحَيَوَانِ غِذَاءً مِنْ النَّجَاسَةِ لَحْمًا وَعَظْمًا وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ طَاهِرًا يَبْعُدُ الِاسْتِحَالَةُ كَمَا أَنَّ الدَّمَ إذَا صَارَ مَنِيًّا ثُمَّ آدَمِيًّا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَبْعُدُ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ ظَاهِرًا وَكَذَا مَا تَغَذَّتْ بِهِ الْبَقَرَةُ الْجَلَّالَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَلَبَنِ الْخِنْزِيرِ تَشْرَبُهُ الشَّاةُ يَطْهُرُ إذَا بَعُدَتْ الِاسْتِحَالَةُ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَقَوْلُ الْأَصْلِ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ فِي جَوْفِهِ نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهَا لَحْمًا وَعَظْمًا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ وَلَا أَرَاهُ صَحِيحًا.
قَالَ وَقَوْلُهُ إنَّ الرُّومَ لَا يُذَكُّونَ فَيَنْجُسُ جُبْنُهُمْ وَيَحْرُمُ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالْإِنْفَحَةِ كَمَا قَالَهُ مُحَقِّقُو الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي رَأَيْت عَلَيْهِ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ فِي الْعَصْرِ غَيْرَ ظَاهِرٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فَقَدْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُذَكِّي وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ لَيْسَتْ الْإِنْفَحَة مُتَعَيِّنَةً لِعَقْدِ الْجُبْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْقَدُ بِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ كَبَعْضِ الْأَعْشَابِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَظْهَرُ مَا ارْتَضَاهُ وَحَكَاهُ بِلَا شَكٍّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّذِينَ يَكُونُ الْجُبْنُ الْمُعَيَّنُ جُبْنَهُمْ لَا يُذَكُّونَ وَإِنَّهُمْ لَا يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ الْإِنْفَحَةِ أَمَّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فَهُوَ مَوْضِعُ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَقْوَى نَقْلًا وَنَظَرًا الْجَوَازُ وَعَدَمُ التَّنْجِيسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ]
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ وَقَاعِدَةِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ) الْمَنْدُوبُ الَّذِي لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ هُوَ مَا لَمْ تَعْرِضْ ضَرُورَةٌ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ الْوَاجِبُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأَغْلَبِيَّةِ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ فَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَتْهُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا» الْحَدِيثَ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمَنْدُوبُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى الْوَاجِبِ هُوَ مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ الَّتِي لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَقْدِيمِهِ عَلَى الْوَاجِبِ إلَى تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَهُ مُثُلٌ مِنْهَا الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ وَكَذَا لِلْمَرِيضِ إذَا خَافَ الْغَلَبَةَ عَلَى عَقْلِهِ آخِرَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِرَفْعِ الضَّرَرِ
وَمِنْهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ عِنْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ مَنْدُوبٌ قُدِّمَ عَلَى وَاجِبَيْنِ أَحَدُهُمَا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا وَهِيَ الْعَصْرُ تُرِكَ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِضَرُورَةِ الْحُجَّاجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْإِقْبَالِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّقَرُّبِ اللَّائِقِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً بَعْدَ ضَنْكِ الْأَسْفَارِ وَقَطْعِ الْبَرَارِيِ وَالْقِفَارِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْأَوْطَانِ النَّائِيَةِ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى مَصْلَحَةِ وَقْتِ الْعَصْرِ لِأَنَّ فَوَاتَ الزَّمَانِ هُنَا لِلضَّرُورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ الزَّمَانِ بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ لِضَرُورَةِ السَّفَرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ رُفْقَةٌ مُوَافِقُونَ عَلَى النُّزُولِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَهُوَ ضَرَرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِخِلَافِ ضَرُورَةِ مَصَالِحِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا.
وَثَانِيهَا تَرْكُ الْجُمُعَةِ إذَا جَاءَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ وَوَاجِبَةً قَبْلَ الظُّهْرِ مَعَ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ