للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خَبَرٌ آخَرُ حَتَّى تَقَعَ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ صِدْقًا.

وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ فَلِأَنَّ الْكَذِبَ هُوَ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْعُ تَقَرُّرِهِمَا.

وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي هَذَا الْبَيْتِ خَبَرُ صِدْقٍ حَتَّى يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَذِبٌ كَذِبًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَالْمُحَالُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَارْتِفَاعُهُمَا مُحَالٌ عَقْلًا لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، بَيَانُهُ أَنَّ الصِّدْقَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُطَابَقَةِ، وَالْكَذِبَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، وَالْمُطَابَقَةُ وَعَدَمُهَا نَقِيضَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ فَيَكُونُ النَّقِيضَانِ قَدْ ارْتَفَعَا عَنْهُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الصَّعْبَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْجَوَابُ عَنْهَا إلَى فِكْرٍ دَقِيقٍ وَنَظَرٍ عَوِيصٍ.

وَالْجَوَابُ أَنْ نَخْتَارَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَذِبٌ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ يُصَدَّقُ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْخَبَرِ كَمَنْ قَالَ زَيْدٌ قَائِمٌ وَهُوَ لَيْسَ بِقَائِمٍ فَهَذَا كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَثَانِيهِمَا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

وَالْكَذِبِ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ ظَاهِرٌ.

قَالَ (وَالْجَوَابُ أَنَّا نَخْتَارُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَذِبٌ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ نُجِيبُ عَنْ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ بِأَنْ نَقُولَ الْوَاقِعُ مِنْهُمَا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ) قُلْتُ: هُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى إشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ كَذِبٌ، ثُمَّ قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ صِدْقٌ فَإِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ خَبَرَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِمَا عَنْ مُخْبَرٍ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْدُقَ أَحَدُ خَبَرَيْهِ وَيَكْذِبَ الْآخَرُ، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إلَى اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَقِيَاسُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ صِدْقٌ أَنَّ خَبَرَهُ ذَلِكَ كَذِبٌ إذَا كَانَ لَمْ يَقُلْ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ شَيْئًا فَلَازِمُ ذَلِكَ أَنَّ إخْبَارَهُ عَمَّا قَالَهُ فِي الْبَيْتِ بِأَنَّهُ صِدْقٌ، وَبِأَنَّهُ كَذِبٌ إخْبَارُ كَذِبٍ فَقَدْ اجْتَمَعَ الضِّدَّانِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي ثُبُوتٍ، وَذَلِكَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ الْمُمْتَنِعُ، وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي النَّفْيِ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَكَوْنُ كِلَا الْخَبَرَيْنِ كَذِبًا نَفْيٌ لَكِنْ يَبْقَى أَنْ يُقَالَ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي الِانْتِفَاءِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ إذَا كَانَا غَيْرَ مُنْحَصِرَيْنِ بَلْ يَكُونُ لَهُمَا ضِدٌّ ثَالِثٌ، أَمَّا إذَا كَانَا مُنْحَصِرَيْنِ فَهُمَا كَالنَّقِيضَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي ثُبُوتٍ وَلَا انْتِفَاءٍ، وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مُنْحَصِرَانِ فَلَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُمَا لِخَبَرٍ وَاحِدٍ وَلَا انْتِفَاؤُهُمَا مَعًا وَبِالْجُمْلَةِ الْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْخَبَرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، أَمَّا إذَا قَالَ قَائِلٌ يَكُونُ فِي الْإِخْبَارِ مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ، أَوْ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صِدْقٌ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي تَعَرَّى عَنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مُقْتَضَيْ قَوْلِهِ إشْكَالٌ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ صِدْقٌ وَكَذِبٌ وَلَا صِدْقَ وَلَا كَذِبَ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ مُخْبِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ وَلَا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْوُقُوعِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُخْبِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ وَلَا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَهَذَا الْخَبَرُ لَا يَتَّصِفُ لَا بِالصِّدْقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُخْبِرِهِ بِالْوُقُوعِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَإِمَّا أَنْ يُطَابِقَ أَوْ لَا يُطَابِقَ فَإِنْ طَابَقَ فَهُوَ الصِّدْقُ.

وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ فَهُوَ الْكَذِبُ وَبِهَذَا

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

قُلْتُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ جِئْتُكَ أَلْفَ أَلْفَ مَرَّةٍ كَذِبٌ وَلَوْ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ إنْ قَصَدَ بِهَا ظَاهِرَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُطَابِقْ الْوَاقِعَ وَصِدْقٌ إنْ قَصَدَ بِهَا الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَثْرَةِ أَوْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَهَا فِي مُطْلَقِ الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ الْخُصُوصِيَّةِ أَمَّا عَلَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ وَضْعِ الْمَجَازِ لِمَعْنَاهُ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ حُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي تَضْمَنَّهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لِلْوَاقِعِ لَا خُصُوصُ الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ فَتَدَبَّرْ.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ التَّمَدُّحِ بِالْوَفَاءِ فِي الْوَعْدِ وَالْعَفْوِ فِي الْوَعِيدِ وَوُجُودُ الْخَبَرِ بِدُونِ خِصِّيصَتِهِ]

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)

قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ إنَّ قَوْلَكَ إذَا فَرَضْتَ صِدْقَ زَيْدٍ مَثَلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ زَيْدٌ وَمُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ صَادِقَانِ أَوْ كَاذِبَانِ فِي قُوَّةِ خَبَرَيْنِ تَقْدِيرُهُمَا عَلَى الْأَوَّلِ زَيْدٌ صَادِقٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقٌ، وَعَلَى الثَّانِي زَيْدٌ كَاذِبٌ وَمُسَيْلِمَةُ كَاذِبٌ فَيَصْدُقُ مَفْهُومُ الْكَذِبِ فِي مُسَيْلِمَةَ وَيَكْذِبُ فِي زَيْدٍ، وَمَفْهُومُ الصِّدْقِ بِالْعَكْسِ لَا خَبَرٌ وَاحِدٌ حَتَّى يَلْزَمَهُ ارْتِفَاعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِلَّا لَصَدَقَ مُسَيْلِمَةُ فِي قَوْلِك هُمَا صَادِقَانِ أَوْ لَكَذَبَ زَيْدٌ فِي قَوْلِك هُمَا كَاذِبَانِ، وَأَنْ يَكُونُ كَاذِبًا وَإِلَّا لَصَدَقَ مُسَيْلِمَةُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ لَكَذَبَ زَيْدٌ عَلَى الثَّانِي. اهـ

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَضْيِيقِ الْفَرْضِ بِأَنْ نَقُولَ الْمَجْمُوعُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ وَنَجْعَلُ الْخَبَرَ عَنْ الْمَجْمُوعِ وَهُوَ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ، أَوْ يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ أَرَدْتُ الْمَجْمُوعَ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ وَلَمْ أُرِدْ الْإِخْبَارَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْحَقُّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْفَخْرُ أَنْ نَلْتَزِمَ فِي هُمَا صَادِقَانِ أَوْ هُمَا كَاذِبَانِ أَنَّ الْخَبَرَ كَذِبٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَخْبَرَ فِي الْأَوَّلِ عَنْ حُصُولِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفِي الثَّانِي عَنْ ثُبُوتِ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ كُلٍّ مِنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِانْتِفَاءِ جُزْئِهَا فَتَنْتَفِي الْمُطَابَقَةُ فِي الْمَجْمُوعِ بِنَفْيِهَا فِي أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ يَنْتَفِي ثُبُوتُ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ بِنَفْيِهِ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الْمُطَابَقَةِ أَوْ ثُبُوتِ عَدَمِهَا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ الْحَقُّ نَفْيَ ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَجْمُوعِ الْوُجُودَيْنِ وَمَجْمُوعِ الْعَدَمَيْنِ فِي قَوْلِكَ: الْوُجُودُ يَشْمَلُ زَيْدًا

<<  <  ج: ص:  >  >>