الْإِنْسَانَ لَوْ وَجَدَ وَثِيقَةً فِي تَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِحَقٍّ لَهُ فَالْمَنْقُولُ جَوَازُ الدَّعْوَى بِمِثْلِ هَذَا، وَالْحَلِفُ بِمُجَرَّدِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْعِلْمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ الطَّالِبِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالظَّنِّ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لَا يَقْدَحُ فَهَذَا مَانِعٌ لِأَنَّ عَدَمَهُ شَرْطٌ، وَأَيْضًا فَمَا جَازَ الْإِقْدَامُ مَعَهُ لَا يَكُونُ التَّصْرِيحُ بِهِ مَانِعًا كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالِاسْتِفَاضَةِ وَبِالسَّمَاعِ وَبِالظَّنِّ فِي الْفَلَسِ وَحَصْرِ الْوَرَثَةِ، وَصَرَّحَ بِمُسْتَنَدِهِ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا عَلَى الصَّحِيحِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَقْدَحُ تَصْرِيحُ الشَّاهِدِ بِمُسْتَنَدِهِ فِي ذَلِكَ.
وَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ فَإِنَّ مَا جَوَّزَهُ الشَّرْعُ لَا يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ مُنْكَرًا، وَهَذَا مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ، وَقَوْلِي لَا تُكَذِّبُهُمَا الْعَادَةُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسَائِلِ هَذَا الْفَرْقِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُسْمَعُ، وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُسْمَعُ مِنْ الدَّعَاوَى مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَيَكْمُلُ الْبَيَانُ فِي ذَلِكَ بِمَسْأَلَتَيْنِ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) تُسْمَعُ الدَّعَاوَى عِنْدَنَا فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ تَزَوَّجْتهَا بِوَلِيٍّ وَبِرِضَاهَا بَلْ يَقُولُ هِيَ زَوْجَتِي فَيَكْفِيهِ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا تُسْمَعُ حَتَّى يَقُولَ بِوَلِيٍّ وَبِرِضَاهَا وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ بِخِلَافِ دَعْوَى الْمَالِ وَغَيْرِهِ لَنَا الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ وَالرِّدَّةِ وَالْعِدَّةِ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لَهُمَا فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ النِّكَاحَ خَطَرٌ، وَالْوَطْءُ لَا يُسْتَدْرَكُ فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ (الثَّانِي) أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا اخْتَصَّ بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ الصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ خَالَفَتْ دَعْوَاهُ الدَّعَاوَى قِيَاسًا لِلدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ. (الثَّالِثُ) أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعُقُودِ يَدْخُلُهُ الْبَدَلُ وَالْإِبَاحَةُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ خَطَرًا فَيُحْتَاطُ فِيهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ غَالِبَ دَعْوَى الْمُسْلِمِ الصِّحَّةُ فَالِاسْتِدْرَاكُ حِينَئِذٍ نَادِرٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ.
وَالْقَتْلُ خَطَرُهُ أَعَدُّ مِنْ حُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَالنَّادِرُ وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ مِنْ الْقِيَاسِ. (وَعَنْ الثَّانِي) أَنَّ دَعْوَى الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ شُرُوطَهُ بِدَلِيلِ الْبَيْعِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الشُّرُوطِ كَالْبَيْعِ لَهُ شُرُوطٌ لَا تُشْتَرَطُ فِي دَعْوَاهُ (وَعَنْ الثَّالِثِ) أَنَّ الرِّدَّةَ وَالْعِدَّةَ لَا يَدْخُلُهُمَا الْبَدَلُ، وَيَكْفِي الْإِطْلَاقُ فِيهِمَا.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الدَّعَاوَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ]
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) فِي بَيَانِ قَوْلِي لَا تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ وَالدَّعَاوَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (قِسْمٌ) تُصَدِّقُهُ الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْقَرِيبِ الْوَدِيعَةَ (وَقِسْمٌ) تُكَذِّبُهُ الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ مِلْكَ دَارٍ فِي يَدِ زَيْدٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ يَرَاهُ يَهْدِمُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْعَالَمِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ، وَهُمْ عَلَى حَالَتِهِمْ مُشْرِفُونَ عَلَى الْمَوْتِ إلَى صِنَاعَتِهِمْ، وَأَشْغَالِهِمْ، وَالشَّرْعُ لَا يَرْضَى بِمِثْلِهِ قَطْعًا فَنُبِيحُ لِكُلِّ غَنِيٍّ مِنْ مَالِهِ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا اقْتِصَارٍ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَنُبِيحُ لِكُلِّ مُقَتِّرٍ فِي مَالِ مَنْ فَضَلَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ مِثْلَهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَاعِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ إذَا اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ أَوْ إلَى مَيْتَةٍ يُبَاحُ لَهُ مِقْدَارُ الِاسْتِقْلَالِ مُحَافَظَةً عَلَى الرُّوحِ فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَرْوَاحِ أَوْلَى وَأَحَقُّ اهـ.
قَالَ الْعَطَّارُ.
وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ أَيْ هَذَا حَصَلَ فِي عَصْرِهِ، وَأَمَّا الْعَصْرُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ الْآنَ فَالْحَالُ أَقْوَى وَأَشَدُّ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ فَالتَّمَسُّكُ بِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِيهِ أَحْرَى سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي كِتَابِهِ تَوْشِيحُ التَّرْشِيحِ كَلَامًا يَقْرُبُ مِمَّا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ حَيْثُ نَقَلَ عَنْ وَالِدِهِ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا، وَاسْتَخْرَجَهَا قَالَ: مَنْ جَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلَا سَائِلٍ يَأْخُذُهُ حَرَامًا كَانَ أَمْ حَلَالًا ثُمَّ إنْ كَانَ حَلَالًا لَا تَبِعَةَ فِيهِ تَمَوَّلَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ فِي مَرَدِّهِ إنْ عَرَفَ مُسْتَحِقَّهُ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْمَالِ الضَّائِعِ قَالَ وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلَّا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» قَالَ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا مَا يَدْفَعُ مَا نَقُولُهُ لِأَنَّا عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْنِ خُصُوصَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي دَفَعَهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَعَمُّ مِنْهُ مِنْ كُلِّ حَلَالٍ أَوْ الْأَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ مَالٍ قَالَ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ اهـ.
الْمُرَادُ، وَفِي حَاشِيَةِ كنون عَلَى عبق وَبَنَان أَوَّلَ بَابِ الْبُيُوعِ قَالَ الْقَلْشَانِيُّ اُخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ الْحَلَالِ فَقِيلَ هُوَ مَا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَقِيلَ مَا عُرِفَ أَصْلُهُ، وَالْأَوَّلُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ وَعِنْدِي فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ قَدْرَ الضَّرُورَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا زِيَادَةٍ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَمْ يَأْكُلْ حَرَامًا، وَلَا شُبْهَةً، وَقَدْ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا حَرَامًا لَمَا كَانَ لَك بُدٌّ مِنْ الْعَيْشِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَمَالِ الْغَيْرِ لِلْمُضْطَرِّ فَمَا ظَنُّك بِمَا ظَاهِرُهُ الْإِبَاحَةُ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُطْلَبُ الْأَشْبَهُ فَالْأَشْبَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ اهـ.
وَمُرَادُهُ بِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْفَاكِهَانِيِّ كَمَا فِي ابْنِ نَاجِي اهـ.
الْمُرَادُ وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَانْظُرْهُ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ، وَهُوَ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ فَهُوَ الْغَرِيبُ لِبُعْدِهِ عَنْ الِاعْتِبَارِ كَمَا فِي الْمَحَلِّيّ، وَإِلَى تَمْثِيلِ الْغَزَالِيِّ لَهُ بِقَوْلِهِ كَنَفْيِ الصَّوْمِ إلَخْ يُشِيرُ إلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيِّ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ حَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّ الْحَكَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَ فِي الْفُقَهَاءِ، وَشَاوَرَهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ