(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَكَرِّرِ فِي الْعُرْفِ)
اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ قَدْ يَتَكَرَّرُ فِي الْعُرْفِ وَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مَنْقُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ قَدْ تَكَرَّرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَلَمْ يَصِرْ مَنْقُولًا وَنَعْنِي بِالْمَنْقُولِ هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ لَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَلَفْظُ الْأَسَدِ لَا يَنْصَرِفُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ إلَّا بِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ تَكَرُّرُ لَفْظِ الْغَزَالِ فِي الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ وَلَفْظِ الشَّمْسِ وَالْبَدْرِ وَكَذَلِكَ تَكَرُّرِ لَفْظِ الْغَيْثِ وَالْبَحْرِ وَالْغَمَامِ فِي الرَّجُلِ السَّخِيِّ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ اللَّفْظُ مَنْقُولًا فَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ النَّقْلَ أَخَصُّ مِنْ التَّكَرُّرِ وَأَنَّ التَّكَرُّرَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّقْلُ لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ وَإِذَا لَمْ يَصِرْ اللَّفْظُ مَنْقُولًا بِمُجَرَّدِ التَّكَرُّرِ لَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى شَيْءٍ تَكَرَّرَ اللَّفْظُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى مُطْلَقِ التَّكَرُّرِ وَبِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ يَظْهَرُ بُطْلَانُ مَا وَقَعَ فِي مَذْهَبِنَا فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا حِينًا أَوْ زَمَنًا أَوْ دَهْرًا فَذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: ٢٥] أَيْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَاهُ بَلْ النَّخْلَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ حَمْلِهَا إلَى نِهَايَتِهِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَحِينَئِذٍ تُعْطِي ثَمَرَهَا وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ فِيهَا بَيْنَ النَّخْلَةِ وَبَيْنَ بَنَاتِ آدَمَ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمْ النَّخْلَةَ قَالُوا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلَةِ طِينَةِ آدَمَ فَهِيَ عَمَّةٌ» بِهَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ حَصَلَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشْرَ وَجْهًا أَحَدُهَا هَذَا الْوَجْهُ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ تَرَدُّدًا فِي الدَّهْرِ هَلْ هُوَ سَنَةٌ أَمْ لَا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَنَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: ٢٥] إشَارَةً إلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ إذَا حَمَلَتْ فِي وَقْتٍ لَا تَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهَذِهِ الْإِشَارَاتُ كُلُّهَا إلَى أَصْلِ وُجُودِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّاتٍ أَنْ يُقَالَ لَهُ شَرْعِيٌّ وَلَا عُرْفِيٌّ بَلْ ذَلِكَ شَأْنُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ يَنْتَقِلُ فِي أَفْرَادِهِ وَالْمَنْقُولُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ لِجُزْءٍ مَا مِنْ الزَّمَانِ وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَالْمُتَّجَهُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَقَاعِدَةِ النَّقْلِ وَظَهَرَ بِظُهُورِهِ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَذُّرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَقْلًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَذُّرِهِ عَادَةً أَوْ شَرْعًا)
اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَتَعَذَّرَ الْفِعْلُ عَقْلًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْفِعْلُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ أَمْكَنَهُ ثُمَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي اسْمِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ وَإِنَّمَا دَخَلَ التَّغْيِيرُ وَالْمَجَازُ فِي مَعْدُودِهِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ مِنْ الظَّوَاهِرِ فَتَغَيَّرَ مِنْ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ الْعِصْمَةِ إلَى جِنْسٍ آخَرَ وَهُوَ طَلْقُ الْوَلَدِ فَسَقَطَ اسْتِشْكَالُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ كَيْفَ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ فِي الْكُلِّ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْبَعْضِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ فَإِنَّ النِّيَّةَ أَبْطَلَتْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ كُلَّهَا إذَا نَوَى طَلْقَ الْوَلَدِ وَهَذَا هُوَ جُمْلَةُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ فَأَوْلَى أَنْ تُبْطِلَ بَعْضَ مَدْلُولِ اللَّفْظِ إذَا نَوَى بِالثَّلَاثِ اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً فَتَأَمَّلْ (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ)
إذَا قَالَ وَاَللَّهِ أَوْ وَالرَّحْمَنِ لَا فَعَلْت كَذَا وَقَالَ أَرَدْت بِلَفْظِ الْجَلَالَةِ أَوْ بِلَفْظِ الرَّحْمَنِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَبَّرْت بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ لِلَّهِ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْفَاعِلِ عَلَى أَثَرِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَلَاقَةِ وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقِ لَا تَلْزَمُ بِهِ كَفَّارَةٌ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ وَأَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمَا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا امْتَنَعَ شَرْعًا فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ حِسًّا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَرَدْت بِقَوْلِي وَالْعَلِيمِ وَالْعَزِيزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِقَوْلِي كَفَالَةُ اللَّهِ وَعَهْدُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَسْطُهَا بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلِيمٌ أَوْ عَزِيزٌ أَوْ بَعْضَ صِفَاتِ الْبَشَرِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْكَفَالَةِ وَالْعَهْدِ فَأَضَفْتُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إضَافَةَ الْخَلْقِ لِلْخَالِقِ فَإِنَّا نَسْمَعُ هَذِهِ النِّيَّةَ وَتُفِيدُهُ فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ نُصُوصًا بَلْ أَسْمَاءَ أَجْنَاسٍ وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهَا كِنَايَاتٌ لَا تَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقُوَّةِ التَّرَدُّدِ وَالِاحْتِمَالِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ حُكِيَ فِيمَا مَضَى عَنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَقَالُوا ذَلِكَ أَيْضًا فِي الصِّفَاتِ وَاشْتَرَطُوا فِيهَا الشُّهْرَةَ الْعُرْفِيَّةَ وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نُوَافِقْهُمْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّا أَلْزَمْنَاهُ الْكَفَّارَةَ بِنَاءً عَلَى الظُّهُورِ وَالصَّرَاحَةِ لَا بِنَاءً عَلَى النُّصُوصِيَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْمَجَازَ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ وَاضْبُطْ مَا تُفِيدُ فِيهِ نِيَّةُ الْمَجَازِ وَمَا لَا تُفِيدُ فِيهِ فَإِنَّهُ فَرْقٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ حَاجَةً شَدِيدَةً وَقَدْ اتَّضَحَ أَيْضًا حَسَنًا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَاعِدَةِ الْمَجَازِ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا]
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَاعِدَةِ الْمَجَازِ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا)