تَعَذَّرَ حَنِثَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعَذُّرِ الْعَقْلِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِأَيْمَانِهِمْ الْحِنْثَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُمْكِنِ لَهُمْ أَمَّا الْمُتَعَذِّرُ عَقْلًا فَلَمْ يُوضَعْ اللَّفْظُ فِي الْقِسْمِ حَاثًّا عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ الْمُتَعَذِّرُ عَقْلًا لَا يُوجِبُ حِنْثًا لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِهِ وَفَوَاتُ الشَّرْطِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْمَشْرُوطِ فَلَا يَبْقَى الْفِعْلُ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّهُ عَدَمُ فِعْلِهِ أَمَّا التَّعَذُّرُ الْعَادِيُّ أَوْ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ الْفِعْلُ مَعَهُ مُمْكِنًا عَادَةً فَهَذَا مُنْدَرِجٌ فِي الْيَمِينِ عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْحَلِفَ اقْتَضَى الْفِعْلَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إخْرَاجِهِ وَقِيلَ الْمُتَعَذِّرَاتُ كُلُّهَا سَوَاءٌ وَفِي الْفَرْقِ عِدَّةُ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
إذَا حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّ الْحَمَامَةَ فَقَامَ مَكَانَهُ فَوَجَدَهَا مَيِّتَةً قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالشَّافِعِيُّ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ لَوْ حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ أَمَتَهُ فَيَجِدُهَا حَامِلًا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَانِعَ شَرْعِيٌّ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا سَحْنُونٌ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ قَالَ مَالِكٌ الْحَالِفُ لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ إلَى سَنَةٍ فَتَمُوتُ قَبْلَ السَّنَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِمَوْتِهَا وَهُوَ عَلَى بِرٍّ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ إنْ حَلَفَ لَيَرْكَبَنَّ الدَّابَّةَ فَتُسْرَقُ يَحْنَثُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُمْكِنٌ عَادَةً وَإِنَّمَا مَنَعَهُ السَّارِقُ بِخِلَافِ مَوْتِ الْحَمَامِ وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ بَرَّ لِتَعَذُّرِ الْفِعْلِ عَقْلًا وَمَنْعُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحِقِّ كَالسَّارِقِ وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ فَكَاتَبَهُ أَوْ لَيَبِيعَنَّ أَمَتَهُ فَوَجَدَهَا حَامِلًا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَانِعَ شَرْعِيٌّ وَالْفِعْلُ مُمْكِنٌ وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ وَإِنْ حَلَفَ لَيَطَأَهَا فَوَجَدَهَا حَائِضًا يُخَرَّجُ الْحِنْثُ عَلَى الْخِلَافِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ إنْ حَلَفَ لَيَصُومَنَّ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا إنْ صَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ بَرَّ وَإِلَّا حَنِثَ
(تَنْبِيهٌ) وَمَعْنَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ الْفِعْلُ مُتَعَذِّرٌ عَقْلًا يُرِيدُونَ أَنَّ فِعْلَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ عَقْلًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحَمَامَ وَالْحَيَوَانَ حَتَّى يَتَأَتَّى فِيهِ أَفْعَالُ الْأَحْيَاءِ لَكِنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِخِلَافِ السَّارِقِ وَنَحْوِهِ لَا يُقَالُ إنَّ الْفِعْلَ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَإِنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ عَادَةً الْقُدْرَةُ عَلَى السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ وَيَفْعَلُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَهَذَا تَحْرِيرُ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا وَالصَّلَاةُ فِيهَا إذَا نَذَرَهَا وَقَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ لَا يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا إذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِيهِمَا)
قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا قَالَ عَلَيَّ أَنْ آتِيَ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ الْمَشْيُ إلَيْهَا فَلَا يَأْتِي إلَيْهِمَا حَتَّى يَنْوِيَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدَيْهِمَا أَوْ مَا يُلَازِمُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا وَالصَّلَاةُ فِيهَا إذَا نَذَرَهَا وَقَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ لَا يَجِبُ الْمَشْيُ إلَيْهَا إذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِيهَا) قُلْت مَا حَكَاهُ لَا كَلَامَ فِيهِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي عَدَمَ لُزُومِ الْمَشْيِ إلَى غَيْرِهَا لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ إعْمَالِ الْمُطِيِّ إلَى غَيْرِهَا.
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ مَشَقَّةَ السَّفَرِ الَّذِي يُحْوِجُ إلَى إعْمَالِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ إخْرَاجُ مَا دَخَلَ لُغَةً لَا قَصْدًا فِي مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا وَهِيَ إحْدَى عَشْرَةً أَدَاةً مُسْتَوْعَبَةً فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَالْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي اصْطِلَاحٍ بِهِ التَّخَاطُبُ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا وَقَرِينَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ مَوَارِدِهِمَا الَّتِي يَرِدَانِ عَلَيْهَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ بِحَيْثُ يَجْتَمِعَانِ فِي صُورَةٍ يَجُوزُ دُخُولُهُمَا مَعًا فِيهَا كَالْعُمُومَاتِ وَالظَّوَاهِرِ كُلِّهَا تَقُولُ فِي الْعُمُومِ رَأَيْت إخْوَتَك إلَّا زَيْدًا وَرَأَيْت إخْوَتَك تُرِيدُ دَارَ إخْوَتِهِ أَوْ أَمِيرَ إخْوَتِهِ لِمَا بَيْنَ الدَّارِ وَالْأَمِيرِ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْمُلَابَسَةِ وَتَقُولُ فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعُمُومٍ كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْفَرَسِ رَأَيْت أَسَدًا إلَّا يَدَهُ أَوْ فَرَسًا إلَّا رَأْسَهُ وَرَأَيْت أَسَدًا فِي الْحِمَامِ تُرِيدُ رَجُلًا شُجَاعًا وَرَكِبَتْ فَرَسَك تُرِيدُ حِمَارَهُ الْفَارِهَ الشَّبِيهَ بِالْفَرَسِ فِي سُرْعَةِ الْجَرْيِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْحَاصِلِ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمَا هُوَ أَنَّ الْمَجَازَ يَجُوزُ فِيهِ التَّجَوُّزُ بِجُمْلَةِ الِاسْمِ عَنْ جَمِيعِ الْمُسَمَّى إلَى غَيْرِهِ كَمَا عَدَلْت عَنْ الْأَسَدِ بِجُمْلَتِهِ إلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَجُوزُ فِيهِ اسْتِثْنَاءُ جُمْلَةِ الْأَسَدِ بَلْ بَعْضُهُ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ (وَيَنْفَرِدُ) الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ الْمَجَازِ فِي صُورَةٍ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا هُوَ دُونَ الْمَجَازِ كَأَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا تَقْرِيرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْعَشَرَةِ مُرَادًا بِهَا التِّسْعَةَ وَلَا مُرَادًا بِهَا الْعُشْرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ مَجَازًا وَتَقْرِيرُ مَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا فَقَالَ صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رُشْدٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا مِنْ الْأَعْدَادِ وَإِنْ اتَّصَلَ مَا لَمْ يَبْنِ كَلَامَهُ عَلَيْهِ نَحْوُ وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا وَكَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً بِخِلَافِ الْعُمُومِ وَبِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الِاتِّصَالُ وَإِنْ لَمْ يَبْنِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ اهـ وَيَنْفَرِدُ الْمَجَازُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي صُورَةٍ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا هُوَ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ كَالْمَعْطُوفَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا لُغَةً الِاسْتِثْنَاءُ بِأَنْ تَقُولَ رَأَيْت عَمْرًا وَزَيْدًا إلَّا زَيْدًا لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِثْنَاءِ جُمْلَةِ مَا نَطَقْت بِهِ