يَرْجِعُ إلَى الْعُرْفِ فَيُحِيلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَيَقُولُونَ: لَا نَجِدُ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْفُقَهَاءِ إلَّا الْعَوَامُّ وَهُمْ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُمْ فِي الدِّينِ ثُمَّ إنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْعُرْفِ فَلَوْ كَانَ فِي الْعُرْفِ شَيْءٌ لَوَجَدُوهُ مَعْلُومًا لَهُمْ أَوْ مَعْرُوفًا.
(جَوَابُهُ) هَذَا السُّؤَالُ لَهُ وَقْعٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ وَإِنْ كَانَ سَهْلًا فِي بَادِي الرَّأْيِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَنْهُ إنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدٍ يَتَعَيَّنُ تَقْرِيبُهُ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ لِأَنَّ التَّقْرِيبَ خَيْرٌ مِنْ التَّعْطِيلِ فِيمَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فَنَقُولُ: يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَفْحَصَ عَنْ أَدْنَى مَشَاقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَيُحَقِّقَهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ اسْتِدْلَالٍ ثُمَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاقِّ مِثْلُ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا جَعَلَهُ مُسْقِطًا وَإِنْ كَانَ أَدْنَى مِنْهَا لَمْ يَجْعَلْهُ مُسْقِطًا مِثَالُهُ التَّأَذِّي بِالْقَمْلِ فِي الْحَجِّ مُبِيحٌ لِلْحَلْقِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فَأَيُّ مَرَضٍ آذَى مِثْلَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ أَبَاحَ وَإِلَّا فَلَا وَالسَّفَرُ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ بِالنَّصِّ فَيُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْمَشَاقِّ.
(سُؤَالٌ) آخَرُ مَا لَا ضَابِطَ لَهُ وَلَا تَحْدِيدَ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ اُقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى أَقَلَّ مَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ فَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَاشْتَرَطَ أَنَّهُ كَاتِبٌ يَكْفِي فِي هَذَا الشَّرْطِ مُسَمَّى الْكِتَابَةِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَهَارَةِ فِيهَا فِي تَحْقِيقِ هَذَا الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ شُرُوطُ السَّلَمِ فِي سَائِرِ الْأَوْصَافِ وَأَنْوَاعِ الْحِرَفِ يُقْتَصَرُ عَلَى مُسَمَّاهَا دُونَ مَرْتَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا وَالْقِسْمُ الْآخَرُ مَا وَقَعَ مُسْقِطًا لِلْعِبَادَاتِ لَمْ يَكْتَفِ الشَّرْعُ فِي إسْقَاطِهَا بِمُسَمَّى تِلْكَ الْمَشَاقِّ بَلْ لِكُلِّ عِبَادَةٍ مُرَتَّبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ مَشَاقِّهَا الْمُؤَثِّرَةِ فِي إسْقَاطِهَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.
(جَوَابُهُ) الْعِبَادَاتُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمَوَاهِبِ ذِي الْجَلَالِ وَسَعَادَةِ الْأَبَدِ فَلَا يَلِيقُ تَفْوِيتُهَا بِمُسَمَّى الْمَشَقَّةِ مَعَ يَسَارَةِ احْتِمَالِهَا وَلِذَلِكَ كَانَ تَرْكُ التَّرَخُّصِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَوْلَى وَلِأَنَّ تَعَاطِيَ الْعِبَادَةِ مَعَ الْمَشَقَّةِ أَبْلُغُ فِي إظْهَارِ الطَّوَاعِيَةِ وَأَبْلُغُ فِي التَّقَرُّبِ وَلِذَلِكَ قَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَزُّهَا» أَيْ أَشَقُّهَا وَقَالَ: «أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك» وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَتَحْصُلُ مَصَالِحُهَا الَّتِي بُذِلَتْ الْأَعْوَاضُ فِيهَا بِمُسَمَّى حَقَائِقِ الشَّرْعِ وَالشُّرُوطِ بَلْ الْتِزَامُ غَيْرِ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى كَثْرَةِ الْخِصَامِ وَنَشْرِ الْفَسَادِ وَإِظْهَارِ الْعِنَادِ.
وَيَلْحَقُ بِتَحْرِيرِ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّغَائِرِ وَقَاعِدَةِ الْكَبَائِرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَبَائِرِ وَقَاعِدَةِ الْكُفْرِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَعْلَى رُتَبِ الصَّغَائِرِ وَأَدْنَى رُتَبِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قُلْتُ: وَمَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا صَحِيحٌ.
قَالَ: (سُؤَالٌ آخَرُ مَا لَا ضَابِطَ لَهُ وَلَا تَحْدِيدَ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ عَلَى قِسْمَيْنِ إلَى آخِرِ جَوَابِهِ) قُلْتُ: وَمَا قَالَهُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ: (وَيَلْحَقُ بِتَحْرِيرِ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ إلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِطْلَاقِ) قُلْتُ: لَيْسَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي مُجَرَّدِ الْإِطْلَاقِ فَإِنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ مَنْ قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرٌ إنَّمَا هُوَ مُخَالَفَةُ اللَّهِ وَمُخَالَفَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْرٌ كَبِيرٌ وَمَا أَرَاهُ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ وَالْمَعْنَى عِنْدَ مَنْ قَالَ: إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ صَغَائِرُ وَمِنْهَا كَبَائِرُ إنَّمَا هُوَ مِنْهَا مَا الذَّمُّ عَلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُنَاسِبٌ فِي ذَاتِهِ وَتَارَةً يُرَتِّبُهُ عَقِيبَ أَوْصَافٍ يَكُونُ بَعْضُهَا مُنَاسِبًا فِي ذَاتِهِ دُونَ الْبَعْضِ كَالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ رَتَّبَ الشَّارِعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَقِيبَهُمَا فَيُجْعَلُ الْمُنَاسِبُ مِنْهُمَا فِي ذَاتِهِ كَالنِّصَابِ هُوَ السَّبَبُ وَالْمُنَاسِبُ مِنْهُمَا فِي غَيْرِهِ كَالْحَوْلِ هُوَ الشَّرْطُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَالْعِلَلِ الْمُجْتَمِعَةِ]
(الْفَرْقُ السَّابِعُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَالْعِلَلِ الْمُجْتَمِعَةِ) وَهُوَ أَنَّ مَا يَجِبُ وُجُودُ الْمَعْلُولِ كَالْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا هُوَ جُمْلَةٌ أَوْ تَمَامُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى لَا يَكُونُ وَرَاءَهُ شَيْءٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى عِلَّةً تَامَّةً هُوَ الْعِلَلُ الْمُجْتَمِعَةُ وَمَا لَا يَجِبُ وُجُودُ الْمَعْلُولِ كَالْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَيْثُ يَكُونُ وَرَاءَهُ شَيْءٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى عِلَّةً نَاقِصَةً هِيَ أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَاعِدَةُ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ عَقِيبَ أَوْصَافٍ فَإِنْ رَتَّبَ صَاحِبُ الشَّرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَعَ كُلِّ وَصْفٍ مِنْهَا فَهِيَ عِلَلٌ مُجْتَمِعَةٌ كَوُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ بَالَ لَامَسَ وَأَمْذَى فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إذَا انْفَرَدَ اسْتَقَلَّ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ وَكَإِجْبَارِ الْأَبِ لِابْنَتِهِ مُعَلِّلًا بِالصِّغَرِ وَالْبَكَارَةِ عَلَى الْخِلَافِ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا انْفَرَدَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْإِجْبَارُ فَتُجْبَرُ الصَّغِيرَةُ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ الْكَبِيرَةُ الْمُعَنَّسَةُ عَلَى الْخِلَافِ وَإِنْ لَمْ يُرَتِّبْ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْحُكْمَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَهِيَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ جُزْءِ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ]
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ جُزْءِ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ) مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عَدَمُهُ هُوَ أَنَّ الشَّرْطَ مُنَاسَبَتُهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ وَجُزْءِ الْعِلَّةِ مُنَاسَبَتُهُ فِي نَفْسِهِ كَأَحَدِ وَصْفَيْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُنَاسَبَتِهِ الْعُقُوبَةَ فِي ذَاتِهِ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الشَّرْطِ وَالْمَانِعِ]
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الشَّرْطِ وَالْمَانِعِ) وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَعَدَمُهُ يُوجِبُ عَدَمَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا شَرْطٌ وَالْمَانِعُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَا يَمْنَعُ وُجُودُهُ وُجُودَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً كَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءً النِّكَاحَ وَيَقْطَعُ اسْتِمْرَارَهُ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْمَهْدِ وَتَرْضِعَ مِنْ أُمِّهِ فَتَصِيرُ أُخْتُهُ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَمَا يَمْنَعُ وُجُودُهُ وُجُودَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً.