وَتَظْهَرُ الْبَرَاءَةُ بِتَعْجِيلِ الْأَكْثَرِ فَجَائِزٌ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، وَقِيلَ يَمْتَنِعُ حِمَايَةً لِلذَّرِيعَةِ وَالْأَصْلُ أَنْ يُنْظَرَ مَا خَرَجَ مِنْ الْيَدِ وَمَا خَرَجَ إلَيْهَا فَإِنْ جَازَ التَّعَامُلُ بِهِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا وَلَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُمَا، بَلْ أَفْعَالُهُمَا فَقَطْ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّرَائِعِ الَّتِي يَجِبُ سَدُّهَا وَالذَّرَائِعِ الَّتِي لَا يَجِبُ سَدُّهَا وَالْخِلَافُ فِيهِ وَالْوِفَاقُ وَالْمُدْرِكُ فِي ذَلِكَ.
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْفَسْخِ وَقَاعِدَةِ الِانْفِسَاخِ) فَالْفَسْخُ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ وَالِانْفِسَاخُ انْقِلَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَالْأَوَّلُ فِعْلُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ الْحَاكِمِ إذَا ظَفِرُوا بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ وَالثَّانِي صِفَةُ الْعِوَضَيْنِ فَالْأَوَّلُ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ وَالثَّانِي حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَهَذَانِ فَرْعَانِ فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْصُوفَاتِ وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَبِتَحْرِيمِ هَذَا الْفَرْقِ رَدَدْنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي جَعْلِ الْخُلْعِ فَسْخًا لِعَدَمِ تَعْيِينِ انْقِلَابِ الصَّدَاقِ لِبَاذِلِهِ، بَلْ يَجُوزُ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ إجْمَاعًا فَحَقِيقَةُ الْفَسْخِ مُنْتَفِيَةٌ.
(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَقَاعِدَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ) الْمَجْلِسُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ عَقْدِ الْبَيْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، بَلْ هُوَ مِنْ اللُّزُومِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ عَارِضٌ عِنْدَ اشْتِرَاطِهِ وَيَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ الِاشْتِرَاطِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ اللُّزُومُ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ أَسْبَابٌ لِتَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ مِنْ الْأَعْيَانِ، وَالْأَصْلُ تَرْتِيبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ وَالْبَيْعُ لَازِمٌ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَفَرُّقًا أَمْ لَا، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِعَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَخْتَارَ الْإِمْضَاءَ وَحَكَاهُ أَبُو الطَّاهِرِ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَّا، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَالصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ وَهُوَ حَطِيطَةٌ لَا بَيْعٌ، وَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ وَاعْتَمَدَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ اللُّزُومُ لِذَوِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَقَاعِدَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ إلَى قَوْلِهِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الِاشْتِرَاطِ)
قُلْت مَا قَالَهُ حِكَايَةُ قَوْلٍ وَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ قَالَ (وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ اللُّزُومُ إلَى قَوْلِهِ وَلَا تَنْدَفِعُ الْحَاجَةُ إلَّا بِالتَّخْيِيرِ وَاللُّزُومِ) قُلْت يُقَالُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ الْأَصْلِ بَعْدَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لَا قَبْلَهُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالزُّبْدِ وَهُمَا جِنْسَانِ لِمَا تَقَدَّمَ فَمَا دَامَ التَّمْرُ وَالنَّوَى أَوْ الْمَخِيضُ وَالزُّبْدُ مُتَّصِلَيْنِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الِاسْمِ وَإِذْ مُيِّزَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ صَارَا جِنْسَيْنِ.
وَلَوْ خُلِطَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا وَفُرُوعُ الْأَجْنَاسِ أَجْنَاسٌ كَأَدِقَّةٍ وَأَخْبَازٍ وَأَدْهَانٍ وَخُلُولٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ يَتْبَعُ أَصْلَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ أُصُولُ هَذِهِ أَجْنَاسًا كَانَتْ هَذِهِ أَجْنَاسًا إلْحَاقًا لِلْفُرُوعِ بِأُصُولِهَا فَعَلَى هَذَا دَقِيقُ الْحِنْطَةِ جِنْسٌ وَخُبْزُهَا جِنْسٌ وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ جِنْسٌ وَخُبْزُهُ جِنْسٌ وَدُهْنُ السِّمْسِمِ جِنْسٌ وَدُهْنُ الزَّيْتُونِ جِنْسٌ وَخَلُّ التَّمْرِ جِنْسٌ وَخَلُّ الْعِنَبِ جِنْسٌ وَهَكَذَا فَعَسَلُ النَّحْلِ وَعَسَلُ الْقَصَبِ جِنْسَانِ وَاللُّحُومُ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهَا؛ لِأَنَّهَا فُرُوعُ أُصُولِهَا وَهِيَ أَجْنَاسٌ فَكَانَتْ أَجْنَاسًا كَالْأَخْبَازِ، وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ أَجْنَاسًا بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ فَضَأْنٌ وَمَعْزٌ نَوْعَا جِنْسٍ لَا يُبَاعُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَا الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ وَالْبَخَاتِيُّ وَالْعِرَابُ وَسَمِينُ ظَهْرٍ وَسَمِينُ جَنْبٍ وَلَحْمٌ أَحْمَرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالرِّئَةِ وَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ وَالدِّمَاغِ وَالْكَرِشِ وَالْمَعْيِ وَالْقَلْبِ وَالْجُلُودِ وَالْأَصْوَافِ وَالْعِظَامِ وَنَحْوِهَا أَجْنَاسٌ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي الِاسْمِ وَالْخِلْقَةِ فَكَانَتْ أَجْنَاسًا كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَلَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ أَجْنَاسِهَا، وَلَوْ شَحْمًا بِلَحْمٍ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ كَالنَّقْدَيْنِ اهـ. الْمُحْتَاجُ مِنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُعَدُّ تَمَاثُلًا شَرْعِيًّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَمَا لَا يُعَدُّ تَمَاثُلًا]
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُعَدُّ تَمَاثُلًا شَرْعِيًّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُعَدُّ تَمَاثُلًا فِيهِ)
وَهُوَ عِنْدَنَا أَنَّ لَفْظَ الشَّرْعِ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ حَكَمَتْ فِيهِ الْعَوَائِدُ كَالْأَيْمَانِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهِمَا وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ ضَابِطَ تَمَاثُلِ الْحُبُوبِ الْجَافَّةِ وَالنَّقْدِ هُوَ أَنَّ مَا فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا اعْتَبَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ مَثَلًا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْبُرُّ بِصِيغَةِ الْكَيْلِ فِي الْبَيْعِ وَفِي الزَّكَاةِ بِالْأَوْسُقِ وَصَرَّحَ فِي النَّقْدَيْنِ بِالْوَزْنِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْفِضَّةِ صَدَقَةٌ» ، فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَا اعْتَبَرَهُ وَمَا لَيْسَ فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ اُعْتُبِرَتْ فِيهِ الْعَادَةُ الْعَامَّةُ هَلْ يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْعَوَائِدُ فَعَادَةُ الْبَلَدِ فَإِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْوَجْهَيْنِ خُيِّرَ فِيهِمَا وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا فِي الْأَصْلِ قَالَ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْفَرْقِ يَظْهَرُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْقَمْحِ بِالدَّقِيقِ وَزْنًا فَإِنَّ عَادَةَ الْقَمْحِ الْكَيْلُ فَاعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ بِالْوَزْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، بَلْ ذَلِكَ سَبَبُ الرِّبَا فَإِنَّ الْقَمْحَ الرَّزِينَ يَقِلُّ كَيْلُهُ وَيَكْثُرُ وَزْنُهُ وَالْخَفِيفُ بِالْعَكْسِ وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بَقِيَّةَ