وَيَبْنِي، وَيُؤَاجِرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ وَازِعٍ يَزَعُهُ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ رَهْبَةٍ أَوْ رَغْبَةٍ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِظُهُورِ كَذِبِهَا، وَالسَّمَاعُ إنَّمَا هُوَ لِتَوَقُّعِ الصِّدْقِ فَإِذَا تَبَيَّنَ الْكَذِبُ عَادَةً امْتَنَعَ تَوَقُّعُ الصِّدْقِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) مَا لَمْ تَقْضِ الْعَادَةُ بِصِدْقِهَا، وَلَا بِكَذِبِهَا كَدَعْوَى الْمُعَامَلَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْخُلْطَةُ، وَبَيَانُ الْخُلْطَةِ يَكُونُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ قَاعِدَةِ مَنْ يَحْلِفُ، وَمَنْ لَا يَحْلِفُ، وَأَمَّا مَا تُكَذِّبُهُ الْعَادَةُ فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْأَجَانِبِ سِنِينَ، وَلَمْ يُحَدُّ بِالْعَشَرَةِ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ عَشْرَ سِنِينَ تَقْطَعُ الدَّعْوَى لِلْحَاضِرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَكْرَى أَوْ أَسْكَنَ أَوْ أَعَارَ، وَلَا حِيَازَةَ عَلَى غَائِبٍ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ» ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: ١٩٩] فَكُلُّ شَيْءٍ يُكَذِّبُهُ الْعُرْفُ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِالْمِلْكِ لِحَائِزِهِ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْحِيَازَةُ مِنْ الثَّمَانِيَةِ إلَى الْعَشَرَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ مَنْ قَامَتْ بِيَدِهِ دَارٌ سِنِينَ يَكْرِي، وَيَهْدِمُ وَيَبْنِي فَأَقَمْت بَيِّنَةً أَنَّهَا لَك أَوْ لِأَبِيك أَوْ لِجَدِّك وَثَبَتَتْ الْمَوَارِيثُ، وَأَنْتَ حَاضِرٌ تَرَاهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ لَك فَإِنْ كُنْت غَائِبًا أَفَادَك إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالرَّقِيقِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إذَا ادَّعَى بِأُجْرَةٍ مِنْ سِنِينَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَلَا مَانِعَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى بِثَمَنِ سِلْعَةٍ مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ طَلَبِهِ، وَعَادَتُهَا تُبَاعُ بِالنَّقْدِ، وَشَهِدَتْ الْعَادَةُ أَنَّ هَذَا الثَّمَنَ لَا يَتَأَخَّرُ، وَأَمَّا فِي الْأَقَارِبِ فَقَالَ مَالِكٌ الْحِيَازَةِ الْمُكَذِّبَةُ لِلدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ نَحْوُ الْخَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ الْأَقَارِبَ يَتَسَامَحُونَ لِبِرِّ الْقَرَابَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأَجَانِبِ أَمَّا لِدُونِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الطُّولِ فَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى كَاذِبَةً، وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَسَمِعَ الدَّعْوَى فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَنَا النُّصُوصُ الْمُتَقَدِّمَةُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَّعِي وَقَاعِدَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَّعِي وَقَاعِدَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) فَإِنَّهُمَا يَلْتَبِسَانِ فَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ مُدَّعِيًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَطْلُوبٍ مِنْهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ، وَالْبَحْثُ فِي هَذَا الْفَرْقِ بَحْثٌ عَنْ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»
مَنْ هُوَ الْمُدَّعِي الَّذِي عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَمَنْ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي يَحْلِفُ فَضَابِطُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ عِبَارَتَانِ لِلْأَصْحَابِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَبْعَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَمَدَ إلَى إحْدَى كَرَائِمِهِ أَيْ عَقَائِلِ نِسَائِهِ الْحَرَائِرِ وَوَطِئَهَا فِي رَمَضَانَ فَأَفْتَوْا بِالْإِطْعَامِ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ سَاكِنٌ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فِي فَتْوَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُ لَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَأَقُولُ بِالصِّيَامِ فَقِيلَ لَهُ أَلَيْسَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الْإِطْعَامَ فَقَالَ لَهُمْ تَحْفَظُونَ مَذْهَبَهُ إلَّا أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُصَانَعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا أَمَرَ مَالِكٌ بِالْإِطْعَامِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا مَالَ لَهُ إنَّمَا هُوَ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَكَرَ لَهُ عَلَيْهِ اهـ وَهُوَ صَحِيحٌ اهـ.
أَيْ لِأَنَّ إفْتَاءَهُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ كَمَا أَنَّ إفْتَاءَهُ بِالصَّوْمِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ يَرْتَدِعُ بِهِ إذْ يَسْهُلُ بَذْلُ الْمَالِ فِي شَهْوَةِ الْفَرْجِ كَذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ كَمَا فِي الْمَحَلِّيّ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ أَيْضًا حَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ مِثْلُ هَذَا فِي رَمَضَانَ فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَكَفَّارَتِهِ فَقَالَ يَحْيَى أَيْ ابْنُ يَحْيَى الْمَغْرِبِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ تَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ حِكْمَةِ مُخَالَفَتِهِ لِإِمَامِ مَذْهَبِهِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فَقَالَ لَوْ فَتَحْنَا لَهُ هَذَا الْبَابَ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ كُلَّ يَوْمٍ، وَيُعْتِقَ فَحَمَلْته عَلَى أَصْعَبِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الصَّوْمُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ يَحْيَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَانَ كَلَامُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ اهـ.
نَعَمْ قَالَ الْقَرَافِيُّ إفْتَاءُ يَحْيَى لَهُ بِالصَّوْمِ هُوَ الْأَوْفَقُ بِكَوْنِ مَشْرُوعِيَّةِ الْكَفَّارَاتِ لِلزَّجْرِ، وَلَمْ يُفْتِهِ يَحْيَى عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ اهـ.
أَيْ حَتَّى يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَاحْتُفِظَ عَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ.
(التَّنْبِيهُ الثَّانِي) نَظَمَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الرِّيَاحِيُّ التُّونُسِيُّ نَظَائِرَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَفْسُدُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ بِقَوْلِهِ:
وَأَيُّ صَلَاةٍ لِلْإِمَامِ فَسَادُهَا ... تَبَيَّنَ فَالْمَأْمُومُ فِي ذَاكَ تَابِعُ
سِوَى عِدَّةٍ سَاوَتْ كَوَاكِبَ يُوسُفَ ... وَهَا أَنَا مُبْدِيهَا إلَيْك وَجَامِعُ
فَفِي حَدَثٍ يُنْسِي الْإِمَامَ وَسَبْقِهِ ... وَقَهْقَهَةٍ وَالْخَوْفِ فِي الْعَدِّ رَابِعُ
وَإِعْلَامُ مَأْمُومٍ يَفُوزُ إمَامُهُ ... بِتَنْجِيسِهِ وَالْبَعْضُ فِيهِ مُنَازِعُ
وَقَطْعُ إمَامٍ حِينَ كَشْفٍ لِعَوْرَةٍ ... عَلَى مَا لِسَحْنُونٍ وَقَدْ قِيلَ وَاسِعُ
وَمُسْتَخْلِفٌ لَفْظًا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ... لِأَجْلِ رُعَافٍ وَهِيَ فِي الْعَدِّ سَابِعُ
وَمُسْتَخْلَفٌ بِالْفَتْحِ لَمْ يَنْوِ ثُمَّ مَنْ ... بِتَسْلِيمِهِ فَاتَ التَّدَارُكُ تَابِعُ
وَتَارِكٌ قِبْلِيَّ الثَّلَاثِ وَطَالَ إنْ ... هُمُو فَعَلُوا لَكِنْ بِهِ الْخُلْفُ وَاقِعُ
وَمُنْحَرِفٌ لَا يُسْتَجَازُ انْحِرَافُهُ ... وَهَذَا غَرِيبٌ بِالتَّمْتَمَةِ طَالِعُ
وَذَا فِي صَلَاةٍ مَا الْجَمَاعَةُ شَرَطَهَا ... وَإِلَّا فَبُطْلَانٌ عَلَى الْكُلِّ شَائِعُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.