وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمُحَرَّمُ لَا يَنْفُذُ فِي الشَّرِيعَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَقَدْ تَحَرَّرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ مَنْ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ وَالْقَضَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَالْكُفَلَاءِ فِي الْحَضَانَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَتَحْرِيرِ ضَابِطِهِمَا وَبِاَللَّهِ الْعِصْمَةُ.
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَانِ الْإِحْدَاثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالرَّوَافِعِ لِلْأَسْبَابِ لَا تُعْتَبَرُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَتَاوَى ظَاهِرُهَا التَّنَاقُضُ وَفِي التَّحْقِيقِ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ إذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ يَجِبُ الْوُضُوءُ فَاعْتُبِرَ الشَّكُّ، وَإِنْ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ فَلَا عِبْرَةَ بِالطَّهَارَةِ فَأُلْغِيَ الشَّكُّ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً لَزِمَهُ الثَّلَاثُ فَاعْتُبِرَ الشَّكُّ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأُلْغِيَ الشَّكُّ، وَإِنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ فِي عَيْنِهَا هَلْ هِيَ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ أَوْ غَيْرُهُمَا لَزِمَهُ جَمِيعُ مَا شَكَّ فِيهِ فَاعْتُبِرَ الشَّكُّ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأُلْغِيَ الشَّكُّ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَصَلَّى وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
بِالْأَهْلِيَّةِ كَمَا تَحْصُلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُتَّصِفِ بِهَا فَلَا وَجْهَ لِعَزْلِهِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْوَصِيِّ فِيهِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا وَلَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَحِلَّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِيمَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ وَلَمْ يَنْصَحْ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ يَجْتَهِدُ وَيَنْصَحُ وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَمَسُّ بِالْأَهْلِيَّةِ مِنْهُ، وَمَا قَالَهُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوقِ السَّبْعَةِ إلَى تَمَامِ الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالْمِائَةِ صَحِيح.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْعِبَادَاتِ كَالْعَامِدِ اهـ وَذَلِكَ أَنَّهُ بِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ كَانَ عَاصِيًا كَالْمُتَعَمِّدِ التَّرْكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ]
الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ) .
اعْلَمْ أَنَّ الْجَهْلَ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ جَهْلٌ تَسَامَحَ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهِ، وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَهُ صُوَرٌ إحْدَاهَا مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً بِاللَّيْلِ يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ عُفِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْفَحْصَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ الْجَهْلُ بِنَجَاسَةِ الْأَطْعِمَةِ وَالْمِيَاهِ وَالْأَشْرِبَةِ يُعْفَى عَنْهُ لِمَا فِي تَكَرُّرِ الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ فَالْجَاهِلُ الْمُسْتَعْمِلُ لِشَيْءٍ مِنْهَا لَا إثْمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ لَا إثْمَ عَلَى مَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ جُلَّابًا فِي جَهْلِهِ بِهِ لِمَشَقَّةِ فَحْصِهِ عَنْهُ. الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ لَا إثْمَ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي صَفِّ الْكُفَّارِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فِي جَهْلِهِ بِهِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ لَا إثْمَ عَلَى الْحَاكِمِ يَقْضِي بِشُهُودِ الزُّورِ جَاهِلًا بِحَالِهِمْ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. الصُّورَةُ السَّادِسَةُ قَالَ الْحَطَّابُ عِنْدَ قَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ أَوْ شَهِدَ وَحَلَفَ مَا نَصُّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْ جَهَلَةِ الْعَوَامّ فَإِنَّهُمْ يَتَسَامَحُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي عِنْدِي أَنْ يُعْذَرُوا بِهِ اهـ.
النَّوْعُ الثَّانِي جَهْلٌ لَمْ يَتَسَامَحْ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهِ، وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَا يَشُقُّ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَهَذَا النَّوْعُ يَطَّرِدُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي بَعْضِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْفُرُوعِ، أَمَّا أُصُولُ الدِّينِ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمَّا شَدَّدَ فِي جَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ تَشْدِيدًا عَظِيمًا بِحَيْثُ إنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ بَذَلَ جَهْدَهُ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي رَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ أَوْ فِي شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ الْجَهْلُ لَكَانَ بِتَرْكِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ آثِمًا كَافِرًا يَخْلُدُ فِي النِّيرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَوْصَلَ الِاجْتِهَادَ حَدَّهُ، وَصَارَ الْجَهْلُ لَهُ ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِيمَا يُعْتَقَدُ أَنَّهَا مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَبِحَيْثُ إنَّهُ يُكَلَّفُ بِأَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَدَقَائِقِ أُصُولِ الدِّينِ نَحْوِ الْمَرْأَةِ الْبَلْهَاءِ الْمَفْسُودَةِ الْمِزَاجُ النَّاشِئَةِ فِي الْأَقَالِيمِ الْمُنْحَرِفَةِ عَمَّا يُوجِبُ اسْتِقَامَةَ الْعَقْلِ كَأَقَاصِي بِلَادِ السُّودَانِ وَأَقَاصِي بِلَادِ الْأَتْرَاكِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَالِيمَ لَا يَكُونُ لِلْعَقْلِ فِيهَا كَبِيرُ رَوْنَقٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بِلَادِ الْأَتْرَاكِ عِنْدَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} [الكهف: ٩٣] حَتَّى صَارَ تَكْلِيفُ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْقَوْلَ، وَبَعُدَتْ أَهْلِيَّتُهُ لِهَذِهِ الْغَايَةِ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَمَّا اخْتَصَّهُ الشَّرْعُ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ عَنْ الْفِقْهِ أَحَدُهَا أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، وَثَانِيهَا أَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهِ آثِمٌ، وَثَالِثُهَا لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ.
وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ يُلْحَقُ بِأُصُولِ الدِّينِ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ اُخْتُصَّ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ عَنْ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُصِيبَ فِيهِ وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئَ فِيهِ آثِمٌ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ، وَأَمَّا بَعْضُ