للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَصْدٍ إلَيْهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: ٨] فَقَسَّمَ الْكُفَّارُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْكَذِبِ وَإِلَى الْجُنُونِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْقَصْدُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ فِي الْقِسْمَيْنِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَذِبًا إلَّا إذَا قُصِدَ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ.

وَالْجَوَابُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى مُطْلَقِ الْكَذِبِ وَالْجُنُونِ بَلْ إلَى الِافْتِرَاءِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَكُونُ مُخْتَرَعًا مِنْ جِهَةِ الْكَاذِبِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الِافْتِرَاءُ وَمَا تَبِعَ فِيهِ غَيْرَهُ لَا يُقَالُ لَهُ افْتِرَاءٌ فَهُمْ قَسَّمُوا الْكَذِبَ إلَى نَوْعَيْهِ الْمُفْتَرَى وَغَيْرِهِ لَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى الْكَذِبِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْخَصْمِ، وَهَذَا كَقَوْلِنَا فِي زَيْدٍ هُوَ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَمْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ أَوْ نَقُولُ هُوَ ابْتَدَأَ هَذَا الْكَذِبَ وَتَعَمَّدَهُ أَوْ اتَّبَعَ فِيهِ غَيْرَهُ أَوْ نَطَقَ بِهِ غَفْلَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ. .

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَصْدٍ إلَيْهِ. وَهُوَ الْمَطْلُوبُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: ٨] فَقَسَّمَ الْكُفَّارُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْكَذِبِ وَإِلَى الْجُنُونِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْقَصْدُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ فِي الْقِسْمَيْنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَذِبًا إلَّا إذَا قُصِدَ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ.

وَالْجَوَابُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا كَلَامَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى مُطْلَقِ الْكَذِبِ وَالْجُنُونِ بَلْ إلَى الِافْتِرَاءِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَكُونُ مُخْتَرَعًا مِنْ جِهَةِ الْكَاذِبِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الِافْتِرَاءُ، وَمَا يَتْبَعُ غَيْرَهُ فِيهِ فَلَا يُقَالُ لَهُ افْتِرَاءٌ فَهُمْ قَسَّمُوا الْكَذِبَ إلَى نَوْعَيْهِ الْمُفْتَرَى وَغَيْرِهِ لَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى الْكَذِبِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْخَصْمِ، وَهَذَا كَقَوْلِنَا فِي زَيْدٍ هُوَ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَمْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ أَوْ نَقُولُ هُوَ افْتَرَى هَذَا الْكَذِبَ وَاخْتَرَعَهُ، أَوْ اتَّبَعَ فِيهِ غَيْرَهُ أَوْ نَطَقَ بِهِ غَفْلَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ)

قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ حَدَّ الْخَبَرِ بِالْمُحْتَمِلِ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَصِحُّ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ حَدِّهِ فَإِنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ غَيْرِ الْقَاصِدِ لِلْكَذِبِ قَابِلٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا أَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ الْقَاصِدِ لِلْكَذِبِ قَابِلٌ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِيمَا قَالَهُ ذَهَابُ وَهْمِهِ إلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عِوَضُ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ قَدْ أَبَى الْحَدَّ بِهِمَا وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ فَقَدْ يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ وَيُكَذِّبُ الصَّادِقَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِالْغَيْبِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُكَذِّبَ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا مَنْ قَصَدَ الْكَذِبَ، وَمِنْ أَيْنَ يَطَّلِعُ عَلَى قَصْدِهِ لِذَلِكَ.

وَاسْتِدْلَالُهُ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ صَحِيحٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَرَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ الظَّنُّ.

وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَرَامَ فِيهَا الْقَطْعُ فَلَا، وَمَا أَجَابَ بِهِ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: ٨] حَيْثُ قَالَ فَهُمْ قَسَّمُوا الْكَذِبَ إلَى نَوْعَيْهِ الْمُفْتَرَى وَغَيْرِهِ لَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى الْكَذِبِ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَرَامَ الظَّنُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا قَالُوهُ هُوَ الظَّاهِرُ دُونَ مَا قَالَهُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَرَامُ الْقَطْعَ فَقَدْ يَصِحُّ عَلَى بُعْدِ احْتِمَالِ مَا قَالَهُ فَإِنَّ نِسْبَةَ الْجُنُونِ إلَى مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فِي قَوْلِهِ: الْكَاذِبِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

فِي الْحَالِ وَقَوْلُنَا سَيَقُومُ السَّاعَةَ تَبَعٌ لِتَقْرِيرِ قِيَامِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ تَابِعٌ لِمُخْبِرِهِ فِي الْوُجُودِ، وَإِلَّا لَمَا صَدَقَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَاضِي فَقَطْ فَإِنَّ الْحَاضِرَ مُقَارِنٌ فَلَا تَبَعِيَّةَ لِحُصُولِ الْمُسَاوَاةِ.

وَوُجُودُ الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْخَبَرِ فَهُوَ مَتْبُوعٌ لَا تَابِعٌ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْعِلْمُ تَابِعٌ لِمَعْلُومِهِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِتَقَرُّرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ الْمَعْلُومُ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَإِنَّا نَعْلَمُ الْحَاضِرَاتِ وَالْمُسْتَقْبِلَات كَمَا نَعْلَمُ الْمَاضِيَاتِ، وَالْعِلْمُ فِي الْجَمِيعِ تَبَعٌ لِمَعْلُومِهِ فَالْعِلْمُ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا فَرْعٌ وَتَابِعٌ لِتَقَرُّرِ طُلُوعِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ لِذَاتِهِ وَإِنْ لَزِمَهُ لِلَازِمِهِ كَمَا عَرَفْتَ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْخَبَرَ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ، وَالْإِنْشَاءُ لَا يَقَعُ إلَّا مَنْقُولًا عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يُفِيدُ طَلَاقَهَا بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا صَارَ يُفِيدُ الطَّلَاقَ بِسَبَبِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ لِلْإِنْشَاءِ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا كَمَا يُتَّفَقُ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إذَا سَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إعْلَامًا لَهَا بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُفِيدُ كُلًّا مِنْ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ يُضْعِفُهُ رُجْحَانُ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ، وَقَدْ يَقَعُ الْإِنْشَاءُ لِإِنْشَاءِ الطَّلَبِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.

[فَصْلٌ أَقْسَام الْإِنْشَاءُ]

(فَصْلٌ) يَنْقَسِمُ الْإِنْشَاءُ إلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:

(الْأَوَّلُ) الْقَسَمُ كَقَوْلِنَا أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَقَدْ قَامَ زَيْدٌ اتَّفَقَ أَهْلُ اللِّسَانِ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ قَائِلَهُ أَنْشَأَ بِهِ الْقَسَمَ لَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ وُقُوعٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَجَمِيعُ لَوَازِمِ الْإِنْشَاءِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ وَلَا الْكَذِبُ فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ النُّحَاةِ الْقَسَمُ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً خَبَرِيَّةً.

(الْقِسْمُ الثَّانِي) الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي نَحْوَ قَوْلِنَا: افْعَلْ لَا تَفْعَلْ اتَّفَقَ الْجَاهِلِيَّةُ وَالْإِسْلَامُ

<<  <  ج: ص:  >  >>