تَعْظِيمَ عَظِيمٍ مِنَّا فَعَلَ مَعَهُ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَنَا إذَا مَرَّ بِبُيُوتِ الْأَكَابِرِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُحَيِّهِمْ بِالتَّحِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ، وَالسَّلَامُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَهُوَ سَالِمٌ لِذَاتِهِ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ أَوْ هُوَ مِنْ الْمُسَالَمَةِ، وَهِيَ التَّأْمِينُ مِنْ الضَّرَرِ، وَهُوَ تَعَالَى يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ مَعَانِيهِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بَلْ وَرَدَ أَنْ نَقُولَ لَهُ تَعَالَى أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ وَإِلَيْك يَعُودُ السَّلَامُ حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ أَيْ أَنْتَ السَّالِمُ لِذَاتِك وَمِنْك يَصْدُرُ السَّلَامُ لِعِبَادِك.
وَإِلَيْك يَرْجِعُ طَلَبُهَا فَاعْطِنَا إيَّاهَا، وَلَمَّا اسْتَحَالَ السَّلَامُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ مُقَامَهُ لِيَتَمَيَّزَ بَيْتُ الرَّبِّ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوتِ بِصُورَةِ التَّعْظِيمِ بِمَا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ نَابَتْ الْفَرِيضَةُ عَنْ النَّافِلَةِ فِي ذَلِكَ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِهَا، وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ التَّحِيَّاتِ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ تَمْيِيزَهَا اُخْتُصَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَاشْتُهِرَ بِاسْمِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبُيُوتِ فَإِنَّ شَأْنَ الرَّئِيسِ وَالْمَلِكِ الْعَظِيمِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَيَحُلَّ فِي بَيْتِهِ وَيَخْتَصَّ بِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَزْمِنَةِ مَا اُشْتُهِرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الشُّهْرَةَ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى تَمْيِيزٍ يَخْتَصُّ بِهِ يُنَاسِبُ الرُّبُوبِيَّةَ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ قُلْت فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ الثُّلُثَ الْأَخِيرَ مِنْ اللَّيْلِ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَعَالَى فِيهِ سَمَاءَ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ» فَقَدْ اخْتَصَّ هَذَا الْوَقْتُ مِنْ الزَّمَانِ بِهِ تَعَالَى كَمَا اخْتَصَّتْ الْمَسَاجِدُ بِأَنَّهَا بُيُوتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ فِيهِ مَا يُوجِبُ التَّمْيِيزَ كَمَا شُرِعَ فِي الْمَسْجِدِ.
قُلْت: الْأَزْمِنَةُ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ بِالْقُدُومِ فِيهَا عَلَى الرَّعَايَا شَأْنُهَا أَنْ تُعَظَّمَ بِالزِّينَةِ فِي الْمَدَائِنِ وَغَيْرِ الزِّينَةِ مِنْ أَسْبَابِ الِاحْتِفَالِ، وَكَانَ يَلْزَمُنَا مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَيْرَ أَنَّ اللَّيْلَ لَا يُلَازِمُ الصَّوْمَ شَرْعًا فَشُرِعَ فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي أَوْصَافِ الْمِيَاهِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الطُّهُورِيَّةِ، وَفِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إلَى إيقَاعِهَا فِي الْجَامِعِ، وَالسَّفَرِ إلَى الْحَجِّ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إلَى إيقَاعِهِ بِعَرَفَةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ.
وَقَدْ يَجِبُ إيجَابَ الْمَقَاصِدِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَيْضًا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مَقْصِدٌ لِنَفْسِهِ لَا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِغَيْرِهِ فَعَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْجِهَةِ يَكْفِي يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْجِهَةِ وَاجِبًا وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَمَّا بَعُدَتْ عَنْ الْإِبْصَارِ جِدًّا وَتَعَذَّرَ الْجَزْمُ بِحُصُولِهَا جَعَلَ الشَّرْعُ الِاجْتِهَادَ فِي الْجِهَةِ هُوَ الْوَاجِبُ نَفْسُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ، فَلَا يَجِبُ أَلْبَتَّةَ فَإِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ عَيْنَ الْكَعْبَةِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ أَمَّا إذَا أَخْطَأَ الْجِهَةَ فَقَدْ أَخْطَأَ الْمَقْصُودَ فَيَلْزَمُ الْإِعَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ اسْتِقْبَالَ السَّمْتِ لَا بُدَّ مِنْهُ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْجِهَةِ وَاجِبًا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيلِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا أَخْطَأَ الْعَيْنَ فِي اجْتِهَادِهِ فِي الْجِهَةِ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصِدُهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخِلَافُ فِي كُلٍّ مِنْ السَّمْتِ وَالْجِهَةِ أَمَّا فِي السَّمْتِ فَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَوْ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا لَا وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ وَلَا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَسِيلَةً لِغَيْرِهِ؟ قَوْلَانِ، وَأَمَّا فِي الْجِهَةِ فَهُوَ أَنَّهَا هَلْ تَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَوْ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ؟ قَوْلَانِ فَالْجِهَةُ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي صُورَةِ وُجُوبِهَا هَلْ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ أَوْ الْمَقَاصِدِ وَفِي السَّمْتِ هَلْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ أَوْ لَا مُطْلَقًا.
فَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ: هَلْ الْوَاجِبُ الْجِهَةُ أَوْ السَّمْتُ؟ قَوْلَانِ فِيهِ قَيْدٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هَلْ الْوَاجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ السَّمْتُ أَوْ الْجِهَةُ؟ قَوْلَانِ وَبِهَذَا الْقَيْدِ يَتَّضِحُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَمْ لَا مَبْنِيَّانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْجِهَةَ هَلْ تَجِبُ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ، فَإِذَا حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فَلَا إعَادَةَ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْعَيْنَ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَوْ تَجِبُ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ فَإِذَا حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَأَخْطَأَ الْعَيْنَ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الْوَسِيلَةَ إذَا لَمْ تُفْضِ إلَى مَقْصُودِهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْجِهَةَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْمَقَاصِدِ، وَأَنَّ الْإِعَادَةَ لَازِمَةٌ عِنْدَ تَبَيُّنِ الْخَطَأِ فِيهَا لَا فِي الْعَيْنِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَمَنْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ]
الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ)
لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْأَهْلِيَّةِ لِأَيِّ وِلَايَةٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ اسْتِحْقَاقٍ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمَنَاصِبِ وَالِاسْتِحْقَاقَات الشَّرْعِيَّةِ وَتَأْخِيرُ مَنْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا تَحْصُلُ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِالْأَهْلِيَّةِ لَا مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيُقَدَّمُ فِي أَمَانَةِ الْأَيْتَامِ مَنْ اتَّصَفَ بِأَهْلِيَّةِ تَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ وَتَقْدِيرِ أَمْوَالِ النَّفَقَاتِ وَأَحْوَالِ الْكَوَافِلِ وَالْمُنَاظَرَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِتِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ، وَيُقَدَّمُ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ النُّصُبِ وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ مِنْ الْخُلْطَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ تِلْكَ