للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(الْفَرْقُ الْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النُّوَاحُ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَرَاثِي مُبَاحَةٌ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ تَحْرِيمُ النُّوَاحِ وَتَفْسِيقُ النَّائِحَةِ دُونَ تَفْسِيقِ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَرْثُونَ الْمَوْتَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَعْيَانِ، وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ بَعْضَ الْمَرَاثِي حَرَامٌ كَالنُّوَاحِ وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ فِيهِمَا وَضَبْطُهُمَا أَنَّ النُّوحَ إنَّمَا حَرُمَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نِسْبَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْجَوْرِ فِي قَضَائِهِ وَالتَّبَرُّمَ بِقَدَرِهِ، وَأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ مَوْتِ هَذَا الْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً بَلْ مَفْسَدَةً عَظِيمَةً، وَتَكُونُ النَّائِحَةُ تَذْكُرُ كَلَامًا يُقَرِّرُ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ، وَتُوَضِّحُهُ لِلْأَفْهَامِ وَتَحْمِلُ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَكُلُّ لَفْظٍ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا نَظْمًا كَانَ أَوْ نَثْرًا مَرْثِيَّةً أَوْ نُوَاحًا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِ النُّوَاحِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّائِحَةَ تُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَمِيصَيْنِ قَمِيصٌ مِنْ جَرَبٍ وَقَمِيصٌ مِنْ قَطِرَانٍ» وَسِرُّهُ أَنَّ الْأَجْرَبَ سَرِيعُ الْأَلَمِ لِتَقَرُّحِ جِلْدِهِ.

وَالْقَطِرَانُ يُقَوِّي شُعْلَةَ النَّارِ فَيَكُونُ عَذَابُهَا بِالنَّارِ بِسَبَبِ هَذَيْنِ الْقَمِيصَيْنِ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَفِي أَبِي دَاوُد «لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ» قَالَ سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هِيَ الَّتِي تَتَّخِذُ النُّوَاحَ صَنْعَةً، قَالَ وَإِلَّا فَالْمَرَّةُ مَكْرُوهَةٌ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ نِسَاءَ جَعْفَرٍ لَمْ يُسْكِتْهُنَّ» وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ فَسَمِعَ صَوْتَ نَائِحَةٍ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا ابْنَةُ عُمَرَ فَقَالَ فَلْتَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ وَفِيهِ «عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا نَنُوحَ فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرُ خَمْسِ نِسْوَةٍ سَمَّتْهُنَّ» ، وَالنُّوَاحُ مِنْ الْكَبَائِرِ.

وَصُورَتُهُ أَنْ تَقُولَ النَّائِحَةُ لَفْظًا يَقْتَضِي فَرْطَ جَمَالِ الْمَيِّتِ وَحُسْنِهِ وَكَمَالِهِ وَشُجَاعَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ وَأُبَّهَتِهِ وَرِئَاسَتِهِ، وَتُبَالِغَ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ إكْرَامِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْأَهْلِيَّةُ، وَيُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ كَانَ أَهْلًا فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا وَعَوَارِضِ سَهْوِهَا وَاسْتِخْلَافِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَارِضِهَا وَمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَهْلًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْأَتَمُّ قِيَامًا بِذَلِكَ فَلَا يَجِبُ حَتْمُ تَقْدِيمِهِ عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَتَمِّ عَلَى الْأَتَمِّ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ حَاصِلٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِتَعْيِينِ الْأَتَمِّ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ خَاصَّةً وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ مُتَوَلٍّ الْآنَ وَجَبَ عَلَيْهِ عَزْلُ الْأَوَّلِ وَتَوْلِيَةُ الْأَصْلَحِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَعْلَى وَلَا يَنْفُذُ عَزْلُ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي عَزَلَهُ مَعْزُولٌ عَنْ عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا وَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ اهـ.

يَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَاصِرٌ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ لَا عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ، وَلَكِنَّ غَيْرَهُ أَمَسُّ مِنْهُ بِالْأَهْلِيَّةِ إذْ لَا وَجْهَ لِعَزْلِهِ حِينَئِذٍ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْقَضَاءِ كَمَا تَحْصُلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُتَّصِفِ بِالْأَهْلِيَّةِ كَذَلِكَ تَحْصُلُ مِنْ الْمَفْضُولِ الْمُتَّصِفِ بِهَا، وَتَعْيِينُ تَقْدِيمِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ إنَّمَا هُوَ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا كَالنِّسَاءِ فِي أَهْلِيَّةِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ أُمُورِ الْحَضَانَةِ فَإِنَّ النِّسَاءَ أَصْبَرُ عَلَى أَخْلَاقِ الصِّبْيَانِ وَأَشَدُّ شَفَقَةً وَرَأْفَةً وَأَقَلُّ أَنَفَةً عَنْ قَاذُورَاتِ الْأَطْفَالِ وَأَكْثَرُ إقَامَةً بِالْمَنْزِلِ، وَالرِّجَالُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَتَعْيِينُ تَقْدِيمِ النِّسَاءِ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ لَا لِكَوْنِهِنَّ أَمَسَّ مِنْهُمْ بِالْأَهْلِيَّةِ، كَمَا إنَّ تَقْدِيمَ الرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ فِي الْإِمَامَةِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَنَاصِبِ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ كَالرِّجَالِ فِي أَهْلِيَّةِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْمَنَاصِبِ وَالْوِلَايَاتِ، بَلْ الْأَهْلِيَّةُ فِيهَا لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ لِجَمِيعِ الرِّجَالِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ» مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْقَضَاءَ تَبَعُ الْحِجَاجِ وَأَحْوَالِهَا، وَأَنَّ مَنْ كَانَ لَهَا أَشَدُّ تَفَطُّنًا كَانَ أَقْضَى مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةُ فَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ شَدِيدَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إذْ هُوَ يُخْدَعُ بِأَيْسَرِ الشُّبُهَاتِ، وَلِكَوْنِ الْقَضَاءِ عِبَارَةً عَنْ التَّفَطُّنِ لِلْحِجَاجِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ» فَظَهَرَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ، وَأَنَّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِالْفُتْيَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَدِيدُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِالْقَضَاءِ كَمَا إنَّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِإِمَامَةِ الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِإِمَامَةِ الْخِلَافَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ إمَامَةَ الْخِلَافَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَمَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَضَبْطِ الْجُيُوشِ وَوِلَايَةِ الْأَكْفَاءِ وَعَزْلِ الضُّعَفَاءِ وَمُكَافَحَةِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْدَاءِ وَتَصْرِيفِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِهَا مِنْ مَظَانِّهَا وَصَرْفِهَا فِي مُسْتَحَقَّاتِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ التَّقْدِيمُ فِي الْخِلَافَةِ كَانَتْ إشَارَةُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ رَضِيَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاك لِدُنْيَانَا إلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ فِي الصَّلَاةِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْإِمَامَةِ لَا تَسْتَقِيمُ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ مُرَادُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّك

<<  <  ج: ص:  >  >>