فَهُوَ مُشْتَرِكٌ فِيهِ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ قُلْنَا وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ نَفْسُ مَاهِيَّتِه فَنُرِيدُ نَفْسَ مَاهِيَّتِه فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا فِي الذِّهْنِ فَنَحْنُ نَتَصَوَّرُ مِنْ مَعْنَى الْوُجُودِ مَعْنًى عَامًّا يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ فَتِلْكَ الصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ فِيهَا فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّوْحِيدَ فِي أَصْلِ الْوُجُودِ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَكَذَلِكَ مَفْهُومُ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِلْمٌ وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ فِيهِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَكَذَلِكَ مَفْهُومُ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَأَنْوَاعُهُ مِنْ الطَّلَبِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَلَوْلَا الشَّرِكَةُ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ بِغَيْرِ مُشْتَرِكٍ مُتَعَذِّرٌ وَقِيَاسُ الْمُبَايِنِ عَلَى مُبَايِنِهِ لَا يَصِحُّ.
وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ إنْ كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِ الْبَشَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تُشْبِهُ ذَاتُهُ ذَاتًا وَلَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ غَيْرِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١] وَالسَّلْبُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ صَحِيحًا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ فَإِنَّ مُسْتَنَدَهَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ السَّلْبَ لِلْمِثْلِيَّةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْآيَةِ صَحِيحٌ وَالْقِيَاسُ أَيْضًا صَحِيحٌ وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعَانِيَ لَهَا صِفَاتٌ نَفْسِيَّةٌ تَقَعُ الشَّرِكَةُ فِيهَا فَبِهَا يَقَعُ الْقِيَاسُ وَتِلْكَ الصِّفَاتُ النَّفِيسَةُ حُكْمٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَحَالٌ مِنْ أَحْوَالِهِ النَّفْسِيَّةِ وَهِيَ حَالَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَذَلِكَ كَمَا نَقُولُ كَوْنُ السَّوَادِ سَوَادًا وَكَوْنُ الْبَيَاضِ بَيَاضًا حَالَةٌ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَهِيَ حَالَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَهَذِهِ الْحَالُ لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْدُومَةٌ فَلَيْسَ خُصُوصُ السَّوَادِ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ صِفَةً وُجُودِيَّةً قَائِمَةً بِالسَّوَادِ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عَرَضًا لَيْسَ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِالسَّوَادِ بَلْ السَّوَادُ فِي نَفْسِهِ بَسِيطٌ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ لَهَا صِفَةٌ بَلْ يُوصَفُ بِهَا وَلَا تُوصَفُ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَحُّدِ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَيْرَيْنِ بِحَالِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْوُجُودِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْلَا الشَّرِكَةُ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرِكَةَ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ لَمْ تَثْبُتْ فَيَتَعَذَّرُ قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ
وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَهُ وَارِدٌ وَجَوَابُهُ بِالْتِزَامِ بُطْلَانِ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَعَدَمِ تَعَذُّرِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِإِثْبَاتِهَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَمَا أَجَابَ هُوَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَحْوَالِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الصِّفَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ إنْ زَنَى بِالْمُسْلِمَةِ طَوْعًا لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَانْتَقَضَ عِنْدَ رَبِيعَةَ وَابْنِ وَهْبٍ وَإِنْ غَرَّهَا بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَتَزَوَّجَهَا فَهُوَ نَقْضٌ عِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ وَإِنْ عَلِمَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْأَمَةُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ اغْتَصَبَهَا قَالَ مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِنَقْضٍ وَقِيلَ نَقْضٌ قَالَ فَإِنْ عُوهِدَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَقْضٌ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ قَالَ الْأَصْلُ وَهَذِهِ الْفُرُوعُ بَعْضُهَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ لِلْقَاعِدَةِ فِي النَّقْضِ فَإِكْرَاهُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا وَجَعْلُهُ نَاقِضًا دُونَ الْحِرَابَةِ مُشْكِلٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِالْحِرَابَةِ فَلَا يُنْتَقَضُ أَوْ تُلْحَقُ الْحِرَابَةُ فِيهِ فَيُنْتَقَضُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِعُمُومِ مُفْسِدَةِ الْحِرَابَةِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ وَعَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ.
اهـ فَإِذَا عَلِمْت هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَتَوَضَّحَتْ عِنْدَك مَسَائِلُهَا ظَهَرَ لَك تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ النَّقْضَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ فَتَعْتَبِرُ مَا يَقَعُ لَك مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ بِرِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَدُّدِ لَهُمْ]
(الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ بِرِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَدُّدِ لَهُمْ) مِنْ حَيْثُ إنَّ بِرَّهُمْ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ مَأْمُورٌ بِهِ {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: ٨] الْآيَةَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ خَيْرًا» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا» وَوُدُّهُمْ وَتُوَلِّيهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: ١] الْآيَةَ.
وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: ٩] الْآيَةَ حَتَّى اُحْتِيجَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا هُوَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ بِرِّهِمْ وَالتَّوَدُّدِ لَهُمْ مِنْ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَمَّا كَانَ عَقْدًا عَظِيمًا فَيُوجِبُ عَلَيْنَا حُقُوقًا لَهُمْ مِنْهَا مَا حَكَى ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ وَنَجْعَلُهُمْ فِي جِوَارِنَا وَفِي حَقِّ رَبِّنَا وَفِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذِمَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ اهـ.
وَاَلَّذِي إجْمَاعُ الْأَمَةِ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَنَمُوتَ دُونَ ذَلِكَ صَوْنًا لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ