فَإِنْ نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ قَيْدِ النِّكَاحِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّصْدِيقِ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ تَقْدِيرُ صِدْقِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْإِخْبَارَ عَنْ زَوَالِ الْعِصْمَةِ وَيَلْزَمُ عَلَى رَأْيِنَا الْقَائِلِينَ بِالْإِنْشَاءِ أَنْ يَكُونَ ضَابِطُ الصَّرِيحِ مَا نُقِلَ لِإِنْشَاءِ إزَالَةِ الْقَيْدِ وَصَارَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ النِّيَّةِ وَمَا لَمْ يَصِرْ بِالنَّقْلِ كَذَلِكَ وَيُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إزَالَةِ الْعِصْمَةِ مَجَازًا لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ كِنَايَةٌ وَمَا لَا عَلَاقَةَ فِيهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهَا يَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ يَكُونُ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ وَيَكُونُ لَفْظُ الْحَرَامِ وَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا اُدُّعِيَ فِيهِ النَّقْلُ صَرِيحًا فَلَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ كِنَايَةٌ أُلْحِقَتْ بِالصَّرِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا صَرِيحَ إلَّا بِالنَّقْلِ حِينَئِذٍ فَأَيُّ لَفْظٍ نُقِلَ كَانَ هُوَ الصَّرِيحُ مِنْ غَيْرِ امْتِيَازِ لَفْظٍ عَنْ لَفْظٍ فِي ذَلِكَ لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي عَدَمِ إفَادَةِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ لُغَةً.
وَفِي إفَادَةِ زَوَالِهَا بِالنَّقْلِ فَلَا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إذَا حَصَلَ فِيهَا النَّقْلُ وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَيْضًا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّقْلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْعُرْفِ فَإِذَا تَحَوَّلَ الْعُرْفُ إلَى الضِّدِّ فَصَارَ الْمُشْتَهِرُ خَفِيًّا وَالْخَفِيُّ مُشْتَهِرًا أَنْ يَكُونَ مَا قَضَيْنَا بِأَنَّهُ صَرِيحٌ يَصِيرُ كِنَايَةً وَمَا قَضَيْنَا بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ يَصِيرُ صَرِيحًا بِحَسَبِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَيَلْزَمُ عَلَى رَأْيِنَا الْقَائِلِينَ بِالْإِنْشَاءِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إذَا حَصَلَ فِيهَا النَّقْلُ) ، قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ لَفْظَ طَالِقٍ يُفِيدُ زَوَالَ الْعِصْمَةِ إمَّا لُغَةً عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ وَإِمَّا عُرْفًا عَلَى مَذْهَبِهِ، وَلَفْظُ أَنْتِ طَالِقٌ يُفِيدُ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ عُرْفًا أَيْضًا وَلَفْظُ الْخَلِيَّةِ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ عُرْفًا، بَلْ مَجَازًا وَلَفْظُ أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ عُرْفًا فِي الْإِنْشَاءِ مَعَ أَنَّ لَفْظَ خَلِيَّةٍ لَيْسَ عُرْفًا فِي الطَّلَاقِ لَا يُفِيدُ بِجُمْلَتِهِ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ عُرْفًا فَبَيْنَ لَفْظِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ خَلِيَّةٌ فَرْقٌ ظَاهِرٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَنْتِ طَالِقٌ صَرِيحًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ طَالِقٍ عَلَى انْفِرَادِهِ وَلَفْظَ أَنْتِ طَالِقٌ بِجُمْلَتِهِ كِلَاهُمَا مَنْقُولٌ عُرْفًا هَذَا لِزَوَالِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ بِخُصُوصِهِ وَالْآخَرُ لِإِنْشَاءِ زَوَالِ ذَلِكَ الْقَيْدِ وَلَفْظُ خَلِيَّةٍ عَلَى انْفِرَادِهِ لَمْ يَنْقُلْهُ الْعُرْفُ لِزَوَالِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ أَنْتِ قَدْ نَقَلَهُ الْعُرْفُ لِلْإِنْشَاءِ، فَيَكُونُ كِنَايَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ) (وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَيْضًا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّقْلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْعُرْفِ) (قُلْت) مَا قَالَهُ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ إلَّا مَا قَالَهُ فِي الْإِنْشَاءَاتِ فَفِيهِ نَظَرٌ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَغَيْرُ الْمَخْصُوصِ أَرْجَحُ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَى تَخْصِيصِهِ
(وَثَالِثُهَا) أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفُرُوجِ التَّحْرِيمُ حَتَّى يُتَيَقَّنَ الْحِلُّ فَتَكُونَ الْأُولَى عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ رُجْحَانُ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْأُولَى مُوَافَقَةً لِلْأَصْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِبَاحَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى سَبَبٍ مَخْصُوصٍ]
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِبَاحَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى سَبَبٍ مَخْصُوصٍ)
اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْبَابَ إذَا تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مِنْ إبَاحَةٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ مَنْعٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَتَعَلَّقَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بِمُسَبَّبَاتِهَا بِحَيْثُ إنَّ الْأَمْرَ بِالسَّبَبِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُسَبَّبِ وَالنَّهْيَ عَنْ السَّبَبِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ الْمُسَبَّبِ وَالتَّخْيِيرَ فِي السَّبَبِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّخْيِيرَ فِي الْمُسَبَّبِ مَثَلًا الْأَمْرُ بِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ وَالْأَمْرُ بِالنِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِحِلِّيَّةِ الْبُضْعِ وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْقَتْلِ الْعُدْوَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ الْإِزْهَاقِ وَالنَّهْيُ عَنْ التَّرَدِّي فِي الْبِئْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ تَهَتُّكِ الْمُرْدِي فِيهَا وَالنَّهْيُ عَنْ جَعْلِ الثُّبُوتِ فِي النَّارِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ نَفْسِ الْإِحْرَاقِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ بِالْعَقْدِ لَا يَسْتَلْزِمُ إبَاحَةَ وَطْئِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ
(الْأَوَّلُ) عَقْلِيٌّ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الْكَلَامِ مِنْ أَنَّ الَّذِي لِلْمُكَلَّفِ تَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ لَا الْمُسَبَّبَاتِ لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَلَا كَسْبَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ
(وَالثَّانِي) سَمْعِيٌّ وَهُوَ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَقْطُوعٌ بِهِ أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ مَا هُوَ عَامٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: ٩٦] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: ٦٢] وَمِنْهُ مَا هُوَ خَاصٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: ١٣٢] وقَوْله تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦] وقَوْله تَعَالَى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: ٢٢] إلَى آخِرِ الْآيَةِ وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: ٥٨ - ٥٩] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: ٦٣] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة: ٦٨] {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة: ٧١] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ» الْحَدِيثَ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ» وَلَا يَرِدُ أَنَّ إبَاحَةَ عُقُودِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ تَسْتَلْزِمُ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ الْخَاصِّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَأَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ بِهَا التَّحْرِيمُ كَبَيْعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ اسْتَلْزَمَ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ الْمُسَبَّبِ عَنْهَا وَأَنَّ التَّعَدِّيَ وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ وَنَحْوَهَا وَالذَّكَاةَ فِي الْحَيَوَانِ إذَا كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الْمَشْرُوعِ تَكُونُ