للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ التَّرَدُّدِ، وَالنِّيَّةُ إنَّمَا تَصْلُحُ حَالَةَ التَّرَدُّدِ

(تَنْبِيهٌ) يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَا يَقْتَضِي طَلَاقَ الْمَرْأَةِ أَلْبَتَّةَ وَلَا لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَكَادُ يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا هَذَا أَعْظَمُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ صَرِيحٌ لُغَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هَذَا لَا يُوجِبُ طَلَاقًا أَلْبَتَّةَ بِسَبَبِ أَنَّ اللُّغَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَضَعَتْهَا الْعَرَبُ لِلْإِخْبَارِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْوَضْعِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَذِبًا لَا عِبْرَةَ بِهِ وَالطَّلَاقُ لَا يَلْزَمُ بِالْخَبَرِ الْكَذِبِ إجْمَاعًا وَمِنْ هَاهُنَا افْتَرَقَ النَّاسُ فَرِيقَيْنِ

(أَحَدُهُمَا) الْحَنَفِيَّةُ قَالَتْ هِيَ بَاقِيَةٌ إخْبَارَاتٍ عَلَى حَالِهَا وَإِنَّمَا الشَّرْعُ يُقَدِّرُ وُقُوعَ مُخْبَرِهَا قَبْلَ النُّطْقِ بِهَا بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ، وَإِذَا صَارَ صَادِقًا لَزِمَهُ مَا نَطَقَ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي صِيَغِ الْعِتْقِ وَجَمِيعِ صِيَغِ الْعُقُودِ مِنْ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ) وَهُوَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ هَذِهِ الصِّيَغُ انْتَقَلَتْ فِي الْعُرْفِ عَنْ الْخَبَرِ لِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ وَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِالْإِنْشَاءِ وَمَتَى قُصِدَ الْخَبَرُ وَعُدِلَ عَنْ الْإِنْشَاءِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْعُرْفُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فَهَذِهِ هِيَ الْمَذَاهِبُ الْوَاقِعَةُ فِي هَذِهِ الصِّيَغِ كُلِّهَا وَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ تَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لُغَوِيَّةٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ كَمَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَوْ النَّقْلِ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَلْزَمُ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الطَّلَاقِ صَرِيحًا مُسْتَغْنِيًا عَنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ لُغَةً عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إزَالَةِ قَيْدِ النِّكَاحِ بِخُصُوصِهِ، بَلْ عَلَى إزَالَةِ قَيْدٍ كَيْفَ كَانَ قَيْدُ النِّكَاحِ أَوْ قَيْدُ الْحَدِيدِ أَوْ غَيْرُهُمَا فَلَا يَنْصَرِفُ لِقَيْدِ النِّكَاحِ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إخْبَارًا عَنْهُ بِخُصُوصِهِ فَصَارَ كِنَايَةً وَصَارَتْ الْأَلْفَاظُ بِجُمْلَتِهَا كِنَايَةً

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ

(تَنْبِيهٌ إلَى قَوْلِهِ أَوْ النَّقْلُ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ) ، قُلْت لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ وَقَعَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ إخْبَارَاتٌ وَوَقَعَتْ فِيهِ إنْشَاءَاتٌ وَمَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي كَوْنِهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ أَوْ مَنْقُولَةً مِنْ الْخَبَرِ إلَى الْإِنْشَاءِ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ (وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَلْزَمُ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ لَفْظُ الطَّلَاقِ صَرِيحًا إلَى قَوْلِهِ لَمْ يَقْصِدْ الْإِخْبَارَ عَنْ زَوَالِ الْعِصْمَةِ) ، قُلْت إنْ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ مِثْلَ قَوْلِهِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ بِخُصُوصِهِ لَزِمَهُمْ مَا أَلْزَمَهُمْ وَإِلَّا فَلَا

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

قَالَهُ الْأَصْلُ يُغْنِي عَنْهُمَا فِي إخْرَاجِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَوْلُهُ لَوْ قُدِّرَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا إلَخْ حَيْثُ جُعِلَ مِنْ تَتِمَّةِ الضَّابِطِ عَلَى أَنَّهُ بِالْقَدْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَمْنَعُ انْدِرَاجَ مَسْأَلَةٍ مَا إذَا كَانَتْ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ بِنِكَاحٍ وَالْأُخْرَى بِمِلْكِ يَمِينٍ مَعَ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَمَا عَلِمْت مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَالْأَصْلُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ ضَابِطٌ لِمَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ بِإِنْصَافٍ هَذَا وَيَتَعَلَّقُ بِمَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الَّذِي أَدْرَجَهُ الْأَصْلُ فِي ضَابِطِ مَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ مَسْأَلَتَانِ تَحْتَاجَانِ إلَى تَدْقِيقٍ فِي الْبَحْثِ قَالَ الْأَصْلُ: فَلِذَلِكَ أَفْرَدْتهمَا عَنْ سَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِي الْبَابِ

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)

اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِيمَا إذَا أَبَانَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ هَلْ تَحِلُّ لَهُ فِي عِدَّتِهَا أُخْتُهَا وَالْخَامِسَةُ نَظَرًا لِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ وَالْمَوَارِيثِ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا الْعِدَّةُ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَوْ لَا تَحِلُّ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ لِأَمْرَيْنِ

(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ

(وَثَانِيهِمَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعْ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ» وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

(وَأَجَابَ) الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَنْ الْأَمْرَيْنِ بِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ وَلَا قَائِلَ بِالتَّحْرِيمِ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الِاخْتِصَاصُ بِالزَّوْجِ حَتَّى تَحْصُلَ الْقَطِيعَةُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَنْفِيٌّ

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَلَّتْ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ آيَةٌ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٣] وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ أَعَمُّ مِنْ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ فَتَسْتَوِيَانِ لِتَنَاوُلِ الْأُولَى الْمَمْلُوكَتَيْنِ وَالْحُرَّتَيْنِ وَتَتَنَاوَلُ الثَّانِيَةُ الْأُخْتَيْنِ وَغَيْرَهُمَا وَلَكِنْ تَرْجِيحُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ التَّحْرِيمَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ

(أَحَدُهَا) أَنَّ الْأُولَى سِيقَتْ لِلتَّحْرِيمِ فَيُسْتَدَلُّ بِهَا فِيهِ وَالثَّانِيَةَ سِيقَتْ لِلْمَدْحِ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا فِي التَّحْرِيمِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا سِيقَ لِمَعْنًى لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي غَيْرِهِ فَتَكُونُ آيَةُ التَّحْرِيمِ سَالِمَةً عَنْ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَتَقَدَّمَ وَقَدْ مَرَّ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَارَضَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٢٤] لِلْآيَةِ الْأُولَى فَلَا تَغْفُلْ

(وَثَانِيهِمَا) أَنَّ الْأُولَى لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَخْصِيصِهَا وَالثَّانِيَةَ أُجْمِعَ عَلَى تَخْصِيصِهَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْوَطْءَ مِنْ الْمَمْلُوكَاتِ وَبِمَا يَقْبَلُهُ لَكِنَّهُ مُحَرَّمُ إجْمَاعًا كَالذُّكُورِ وَأَخَوَاتِ الرَّضَاعَةِ وَمَوْطُوءَاتِ الْآبَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>