(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ؛ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ.
(وَثَانِيهَا) تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَأَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ، وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ، كُلُّ ذَلِكَ اهْتِضَامٌ لَهُمْ لِجَحْدِهِمْ الرَّسَائِلَ وَالرُّسُلَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَظَّمُوا الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ فَحَصَلَ لَهُمْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالتَّمْيِيزِ بِحِلِّ طَعَامِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ لِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الطَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا تَخْفِيفَ الْعَذَابِ أَمَّا فِي تَرْكِ الْخُلُودِ فَلَا.
(وَثَالِثُهَا) تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ الْوَلِيُّ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ سُمِّيَ وَلِيًّا أَيْ تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ
(وَرَابِعُهَا) تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ.
(وَخَامِسُهَا) تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَنُقْطَةٍ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ) .
قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهَا، وَفِي الْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ صَحِيحٌ وَعَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْقَصْرِ فَإِنَّ فَضِيلَتَهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْمَذْهَبِ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْبَدَنَةَ عَدْلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْرَجَ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا فَإِنْ عَجَزَ صَامَ بِعَدَدِ الْأَمْدَادِ أَيَّامًا فَدِمَاءُ الْحَجِّ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةٌ الْمُرَتَّبُ إمَّا مُقَدَّرٌ، أَوْ مُعَدَّلٌ، وَالْمُخَيَّرُ إمَّا مُقَدَّرٌ، أَوْ مُعَدَّلٌ وَاَلَّذِي يَتَدَاخَلُ مِنْهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْفِدْيَةُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَالْهَدْيُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي قَوْلِي:
تَتَّحِدُ الْفِدْيَةُ مَعَ تَعَدُّدٍ ... لِسَبَبٍ بِأَرْبَعٍ لَمْ تَزِدْ
أَحَدُهَا أَنْ تَفْعَلَ الْأَسْبَابَ فِي ... وَقْتٍ وَنَحْوِهِ وَثَانِيهَا قِفِي
نِيَّةَ تَكْرَارٍ لِفِعْلٍ مَا إلَيْهِ ... أَدَّاهُ عُذْرُهُ الَّذِي يَطْرَا عَلَيْهِ
ثَالِثُهَا تَقْدِيمُ مَا نَفْعًا أَعَمَّ ... عَلَى أَخَصَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَعَمِّ
رَابِعُهَا ظَنُّ إبَاحَةِ السَّبَبْ ... لِمُقْتَضٍ مِنْ نَحْوِ رَفْضِ مَا ارْتَكَبْ
وَاتَّحَدَ الْهَدْيُ كَذَا بِخَمْسَةٍ ... فَأَوَّلٌ تَكْرَارُ وَطْءٍ فَاثْبِتْ
وَالثَّانِ تَرْكٌ لِنُزُولِ جَمْعِ ... وَالرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ رَأْسًا فَاوْعِ
وَثَالِثٌ تَأْخِيرُهُ لِلسَّعْيِ مَعَ ... تَرْكِ قُدُومٍ لَا لِعُذْرٍ قَدْ وَقَعْ
وَرَابِعٌ يَا صَاحِ تَرْكُ التَّلْبِيَهْ ... مِنْ بَعْدِ إحْرَامٍ وَسَعْيٍ فَادْرِيَهْ
وَالْخَامِسُ الرُّكُوبُ فِي الطَّوَافِ ... وَالسَّعْيُ لَا لِحَاجَةٍ تُوَافِي
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ]
(الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ)
الْفَضْلُ كَوْنُ مَعْلُومٍ مَا مُنْفَرِدًا بِصِفَةِ مَدْحٍ، أَوْ بِمَزِيَّةٍ فِي صِفَةِ مَدْحٍ وَالتَّفْضِيلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ
الْأَوَّلُ عَقْلِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِمَعْقُولِ الْمُتَّصِفِ بِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي وَضْعِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لَا لِمَعْقُولِ الْمُتَّصِفِ بِهِ بَلْ لِمُوجِبِ غَيْرِهِ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ إنْ كَانَ بِحَسَبِ الذَّاتِ، أَوْ بِحَسَبِ الصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَهُوَ عَقْلِيٌّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ بِالطَّاعَةِ أَوْ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ، أَوْ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ، أَوْ الصُّدُورِ، أَوْ لِمَدْلُولٍ أَوْ الدَّلَالَةِ، أَوْ التَّعَلُّقِ أَوْ الْمُتَعَلَّقِ، أَوْ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ أَوْ بِالْمُجَاوَرَةِ، أَوْ بِالْحُلُولِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ، أَوْ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، أَوْ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى أَوْ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ، أَوْ بِالتَّأْثِيرِ، أَوْ بِجُودَةِ النِّيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ أَوْ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ فَهُوَ وَضْعِيٌّ فَقَاعِدَةُ التَّفْضِيلِ تَرْجِعُ إلَى عِشْرِينَ قَاعِدَةً بَلْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: لَا أَعْرِفُ الْآنَ دَلِيلَ صِحَّةِ حَصْرِ وُجُوهِ التَّفْضِيلِ فِي عِشْرِينَ قَاعِدَةً اهـ.
أَيْ بَلْ إنَّهَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْأَصْلُ وَأَسْبَابُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهَا خَشْيَةَ الْإِسْهَابِ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي عَلَى الْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الْبِقَاعِ فَقَالَ الثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ سَبَبُ التَّفْضِيلِ وَالْعَمَلُ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَرَّمٌ فِيهِ عِقَابٌ شَدِيدٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ فَكَيْفَ مَعَ عَدَمِ الثَّوَابِ يَصِحُّ هَذَا الْإِجْمَاعُ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا وَمَا بَلَغَنِي أَيْضًا عَنْ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَسْبَابُ التَّفْضِيلِ أَرْبَعَةٌ وَكُلُّهَا كَمَلَتْ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ وَأَخَذَ يَرُدُّ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَأَرَدْت بِبَيَانِ تَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ وَالْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَنْ أُبْطِلَ مَا ادَّعَيَاهُ مِنْ الْحَصْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَسْبَابَهُ أَعَمُّ مِنْ الثَّوَابِ بَلْ وَمِنْ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي زَعَمَ الْمَأْمُونُ الْحَصْرَ فِيهَا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ جِلْدُ الْمُصْحَفِ بَلْ وَلَا الْمُصْحَفُ نَفْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ فِيهِ وَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ اهـ بِتَصَرُّفٍ