بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى بُقْعَةٍ خَاصَّةٍ دُونَ سَائِرِ الْبِقَاعِ
وَهَذِهِ مَصَالِحُ لَا تُحْصَى وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْمُبَاشِرِ
كَالصَّلَاةِ فِي حُكْمِهَا وَمَصَالِحِهَا فَمَنْ لَاحَظَ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا: لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ وَمَنْ لَاحَظَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَمُشَابَهَةَ النُّسُكِ فِي الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ الْحَجَّ لَا يَعْرَى عَنْ الْقُرْبَةِ الْمَالِيَّةِ غَالِبًا فِي الْإِنْفَاقِ فِي الْأَسْفَارِ قَالَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، وَالشَّائِبَةُ الْأُولَى أَقْوَى وَأَظْهَرُ وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْحَجِّ بِالذَّاتِ، وَالْمَالِيَّةُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِطَرِيقِ الْعَرَضِ كَمَا تَحْصُلُ فِيمَنْ احْتَاجَ لِلرُّكُوبِ إلَى الْجُمُعَاتِ فَاكْتَرَى لِذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ عَارِضَةٌ فِي الْجُمُعَاتِ وَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا إجْمَاعًا فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْحَجِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَبِهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى غَيْرِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُضْمَنُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُضْمَنُ)
اعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الضَّمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا أَحَدُهَا الْعُدْوَانُ كَالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَهَدْمِ الدُّورِ وَأَكْلِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إتْلَافِ الْمُتَمَوَّلَاتِ فَمَنْ تَعَدَّى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إمَّا الْمِثْلُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ مُقَوَّمًا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْجَوَابِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزَّوَاجِرِ وَالْجَوَابِرِ، وَثَانِيهَا التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْحَيَوَانِ فِي غَيْرِ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْحَافِرِ، أَوْ فِي أَرْضِهِ لَكِنْ حَفَرَهَا لِهَذَا الْغَرَضِ وَكَوَقِيدِ النَّارِ قَرِيبًا مِنْ الزَّرْعِ، أَوْ الْأَنْدَرِ فَتَعْدُو فَتُحْرِقُ مَا جَاوَرَهَا وَكَرَمْيِ مَا يُزْلِقُ النَّاسَ فِي الطُّرُقَاتِ فَيَعْطَبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَيَوَانٌ، أَوْ غَيْرُهُ وَكَالْكَلِمَةِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ ظَالِمٍ إغْرَاءً عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَإِنَّ الظَّالِمَ إذَا أَخَذَ الْمَالَ بِذَلِكَ السَّبَبِ مِنْ الْكَلَامِ ضَمِنَهُ الْمُتَكَلِّمُ وَكَتَقْطِيعِ الْوَثِيقَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحَقِّ وَلِلشَّهَادَةِ بِهِ فَيَضِيعُ الْحَقُّ بِسَبَبِ تَقْطِيعِهَا فَيَضْمَنُ عِنْدَ مَالِكٍ ذَلِكَ الْحَقَّ لِتَسَبُّبِهِ فِيهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَجَعَلَ فِيهَا جَمِيعَ الطَّعَامِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ كُلُوا كُلُوا حَتَّى جَاءَتْ قَصْعَتُهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا وَحَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الصَّفْحَةَ الصَّحِيحَةَ إلَى الرَّسُولِ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِهِ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَارَتْ وَكَسَرَتْ الْإِنَاءَ وَأَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ قَالَ: إنَاءٌ مِثْلُ إنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ» كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْجَوَابِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الزَّوَاجِرِ وَالْجَوَابِرِ.
(وَصْلٌ) إذَا اجْتَمَعَ مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ الثَّلَاثَةِ سَبَبَانِ كَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ مِنْ جِهَتَيْنِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِإِنْسَانٍ لِيَقَعَ فِيهِ فَجَاءَهُ آخَرُ فَأَلْقَاهُ فِيهِ فَهَذَا مُبَاشِرٌ وَالْأَوَّلُ مُتَسَبِّبٌ فَالْغَالِبُ تَقْدِيمُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّسَبُّبِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّرِيعَةِ تَقْدِيمُ الرَّاجِحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُقَدَّمُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ الْمُلْقِي فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَافِرِ وَقَدْ لَا تُقَدَّمُ الْمُبَاشَرَةُ عَلَى التَّسَبُّبِ لِضَعْفِهَا عَنْهُ بَلْ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَالْمُتَسَبِّبِ مَعًا إذَا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ مَغْمُورَةً كَقَتْلِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَيْهَا وَلَا تُغَلَّبُ الْمُبَاشَرَةُ لِقُوَّةِ التَّسَبُّبِ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ إذَا وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ مِنْ نَفْسِ الْمَقْتُولِ جَهْلًا كَتَقْدِيمِ السُّمِّ لِإِنْسَانٍ فِي طَعَامِهِ فَيَأْكُلُهُ جَاهِلًا بِهِ فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لِقَتْلِ نَفْسِهِ، وَوَاضِعُ السُّمِّ مُتَسَبِّبٌ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ أَوْ وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ مِنْ الْحُكَّامِ كَمَا إذَا شَهِدَ شُهُودُ الزُّورِ، أَوْ الْجَهَلَةُ بِمَا يُوجِبُ ضَيَاعَ الْمَالِ عَلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ يَعْتَرِفُونَ بِالْكَذِبِ، أَوْ الْجَهَالَةِ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُتَسَبِّبُونَ كَالْمُكْرِهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِجَامِعِ مُطْلَقِ التَّسَبُّبِ وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ وَلَا يَضْمَنُ الْحَاكِمُ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ الْمُبَاشِرُ، وَالشَّاهِدَ مُتَسَبِّبٌ لِأَنَّ
الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ
قَدْ اقْتَضَتْ عَدَمَ تَضْمِينِ الْحُكَّامِ مَا أَخْطَئُوا فِيهِ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ تَطَرَّقَ إلَيْهِمْ مَعَ كَثْرَةِ الْحُكُومَاتِ وَتَرَدُّدِ الْخُصُومَاتِ لَزَهِدَ الْأَخْيَارُ فِي الْوِلَايَاتِ وَاشْتَدَّ امْتِنَاعُهُمْ فَيَفْسُدُ حَالُ النَّاسِ بِعَدَمِ الْحُكَّامِ فَكَانَ الشَّاهِدُ بِالضَّمَانِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ لِلْحَاكِمِ فِي الْإِلْزَامِ وَالتَّنْفِيذِ وَكَمَا قِيلَ الْحَاكِمُ أَسِيرُ الشَّاهِدِ وَيَقَعُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْجَوَابِرِ فِي الْحَجِّ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَتَدَاخَلُ الْجَوَابِرُ فِيهِ فِي الْحَجِّ]
(الْفَرْقُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْجَوَابِرِ فِي الْحَجِّ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَتَدَاخَلُ الْجَوَابِرُ فِيهِ فِي الْحَجِّ)
تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْجَوَابِرِ وَالزَّوَاجِرِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ هَلْ هِيَ زَوَاجِرُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاقِّ تَحَمُّلِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، أَوْ هِيَ جَوَابِرُ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ لَا تَصِحُّ إلَّا بِنِيَّاتٍ وَلَيْسَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى زَاجِرًا بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قُرُبَاتٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْمَزْجُورِينَ وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُنْلَا عَلِيٌّ قَارِي فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمَنْسَكِ الْمُتَوَسِّطِ فِي كَفَّارَاتِ الْحَجِّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا كَالْحُدُودِ زَوَاجِرُ لَا جَوَابِرُ قَالَ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَمَاعَةَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ إذَا ارْتَكَبَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ عَامِدًا يَأْثَمُ وَلَا يُخْرِجُهُ الْفِدْيَةُ وَالْعَزْمُ عَلَيْهَا عَنْ كَوْنِهِ عَاصِيًا قَالَ النَّوَوِيُّ وَرُبَّمَا ارْتَكَبَ بَعْضُ الْعَامَّةِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ