ثَمَنَ الْوَرَقَةِ خَاصَّةً فَاعْتَبَرَ الْإِتْلَافَ دُونَ السَّبَبِ وَمَالِكٌ اعْتَبَرَهُمَا مَعًا وَرَأَى أَنَّهُ أَتْلَفَ الْحَقَّ بِالْمُبَاشَرَةِ بِالْإِتْلَافِ وَأَتْلَفَ الْحَقَّ بِالتَّسَبُّبِ فَرَتَّبَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مُقْتَضَاهُمَا وَكَمَنْ مَرَّ عَلَى حِبَالَةٍ فَوَجَدَ فِيهَا صَيْدًا يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ وَحَوْزُهُ لِصَاحِبِهِ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ يَضْمَنُهُ عِنْدَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ صَوْنَ مَالِ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّوْنِ ضَمِنَ وَكَذَلِكَ إذَا مَرَّ بِلُقَطَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهَا أَخَذَهَا مَنْ يَجْحَدُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا.
وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَلِفَتْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِهَا ضَمِنَهَا وَلِلسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَكِنْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى أَنَّ التَّسَبُّبَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ.
وَثَالِثُهَا وَضْعُ الْيَدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ وَقَوْلِي " لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ " خَيْرٌ مِنْ قَوْلِي الْيَدُ الْعَادِيَةُ فَإِنَّ الْيَدَ الْعَادِيَةَ تَخْتَصُّ بِالسُّرَّاقِ وَالْغُصَّابِ وَنَحْوِهِمْ، وَتَبْقَى مِنْ الْأَيْدِي الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ قَبْضٌ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ بَلْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ كَقَبْضِ الْمَبِيعِ، أَوْ بَقَاءِ يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ مَعَ عَدَمِ الْعُدْوَانِ وَكَقَبْضِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا فَإِنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا بِالْقِيمَةِ إذَا تَغَيَّرَ سُوقُهُ، أَوْ تَغَيَّرَ فِي ذَاتِهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي وَهَذَا السَّبَبُ الْأَخِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهَا وَكَقَبْضِ الْعَوَارِيِّ وَالرُّهُونِ الَّتِي يُغَابُ عَلَيْهَا كَالْحُلِيِّ وَالسِّلَاحِ وَأَنْوَاعِ الْعُرُوضِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيُّ وَكَقَبْضِ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُقْتَرَضُ فَإِنَّ الْمُقْتَرِضَ يَضْمَنُهَا اتِّفَاقًا مَعَ عَدَمِ الْعُدْوَانِ وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ وَخَرَجَ بِقَوْلِي " الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ " الْيَدُ الْمُؤْتَمَنَةُ كَوَضْعِ الْيَدِ فِي الْوَدَائِعِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَأَيْدِي الْأُجَرَاءِ.
وَوَضْعُ الْأَيْدِي عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْإِجَارَةِ تَخْتَلِفُ فَاسْتَثْنَى مِنْهَا صُورَتَيْنِ: الْأَجِيرَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْأَعْيَانِ بِصَنْعَتِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ؛ لِأَنَّ السِّلْعَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِالصَّنْعَةِ لَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا وَجَدَهَا قَدْ بِيعَتْ فِي الْأَسْوَاقِ
فَكَانَ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَقَالَ أَنَا أَفْتَدِي مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ بِالْتِزَامِ الْفِدْيَةِ يَتَخَلَّصُ مِنْ وَبَالِ الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ خَطَأٌ صَرِيحٌ وَجَهْلٌ قَبِيحٌ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فَإِذَا خَالَفَ أَثِمَ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَيْسَتْ الْفِدْيَةُ مُبِيحَةً لِلْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ، وَجَهَالَةُ هَذَا الْفِعْلِ كَجَهَالَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ وَأَزْنِي وَالْحَدُّ يُطَهِّرُنِي وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ فَقَدْ أَخْرَجَ حَجَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَبْرُورًا اهـ.
الثَّانِي وَالثَّالِثُ لِأَصْحَابِهِ الْأَحْنَافِ أَنَّهَا وَسَائِرَ الْكَفَّارَاتِ لَيْسَتْ كَالْحُدُودِ فِي كَوْنِهَا زَوَاجِرَ بَلْ هِيَ جَوَابِرُ إمَّا مُطْلَقًا، أَوْ لِغَيْرِ الْمُصِرِّ قَالَ وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَكُونُ طُهْرَةً مِنْ الذَّنْبِ وَلَا يَعْمَلُ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ فَإِنْ تَابَ كَانَ الْحَدُّ طُهْرَةً لَهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ الْمُلْتَقَطِ قَالَ فِي بَابِ الْإِيمَانِ: إنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْفَعُ الْإِثْمَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّوْبَةُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ اهـ.
وَالثَّانِي لِلشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ فَقَدْ ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ التَّيْسِيرِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: ١٧٨] أَيْ اصْطَادَ بَعْدَ هَذَا الِابْتِدَاءِ قِيلَ هُوَ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا إذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَإِنَّهَا لَا تَرْفَعُ الذَّنْبَ عَنْ الْمُصِرِّ اهـ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ وَتَقْيِيدٌ مُسْتَحْسَنٌ يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالرِّوَايَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْحَالَاتِ اهـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ.
وَكَفَّارَاتُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ: (الْكَفَّارَةُ الْأُولَى) جَزَاءُ الصَّيْدِ وَهُوَ دَمُ تَخْيِيرٍ بَيْنَ مَا يَعْدِلُهُ الْحُكْمَانِ يَجِبُ لِقَتْلِ صَيْدٍ بَرِّيٍّ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ الْحَرَمِ مَأْكُولًا، أَوْ غَيْرَهُ وَحْشِيًّا، أَوْ مُتَأَنِّسًا مَمْلُوكًا، أَوْ مُبَاحًا فَيُحَكِّمُ قَاتِلُهُ حَكَمَيْنِ عَدْلَيْنِ عَدَالَةَ شَهَادَةٍ فَقِيهَيْنِ بِأَحْكَامِ الصَّيْدِ وَلَمَّا أَشْبَهَ جَزَاءُ الصَّيْدِ إتْلَافَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا عَلَى تَعَدُّدِ الضَّمَانِ فِيمَا يَتَعَدَّدُ الْإِتْلَافُ فِيهِ وَأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ قَالَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ بِتَعَدُّدِ الصَّيْدِ وَلَوْ خَطَأً عَلَى قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ بَلْ الْجَاهِلُ هَهُنَا كَالْجَاهِلِ فِي الصَّلَاةِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَامِدِ لَا مَجْرَى النَّاسِي لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِصْيَانِ هَذَا بِعَمْدِهِ وَهَذَا بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ وَبِهَذَا أَيْضًا قَالَ الْحَنَابِلَةُ فَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَلَى الْإِقْنَاعِ مَعَ الْمَتْنِ وَتَتَعَدَّدُ كَفَّارَةُ الصَّيْدِ أَيْ جَزَاؤُهُ بِتَعَدُّدِهِ أَيْ الصَّيْدِ وَلَوْ قُتِلَتْ الصَّيُودُ مَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: ٩٥] قَالَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ إذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَالصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ فَقَدْ ذَهَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَالشَّعْرُ إذَا حَلَقَهُ فَقَدْ ذَهَبَ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ فِيهَا سَوَاءٌ قَالَ وَيُلْحَقُ بِالْحَلْقِ التَّقْلِيمُ بِجَامِعِ الْإِتْلَافِ اهـ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَّحِدُ الْجَزَاءُ بِالتَّأْوِيلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْذَرُ بِالتَّأْوِيلِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَأُلْحِقَ الْجَاهِلُ بِالنَّاسِي لَا بِالْعَامِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ عُذْرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْجَهْلِ الَّذِي لَيْسَ عُذْرًا فِي الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ أَنْ يَضْمَنَ الْجَاهِلُ هَهُنَا فَإِنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ تَارِكَ التَّعَلُّمِ عَاصٍ وَلَيْسَ الْجَهْلُ هَهُنَا مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَعْذُرَهُ الشَّرْعُ بِهِ كَمَنْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا لَا يَعْلَمُ أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهَا جُلَّابًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ أَجْرَى مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجَاهِلَ فِي الصَّلَاةِ مَجْرَى الْعَامِدِ لَا مَجْرَى النَّاسِي لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِصْيَانِ