للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْت سَيَقُومُ زَيْدٌ وَسَوْفَ يَقُومُ عَمْرٌو وَكَانَ قِيَامُ زَيْدٍ قَبْلَ قِيَامِ عَمْرٍو وَعَمْرٌو بَعْدَهُ لِأَنَّ سَوْفَ أَكْثَرُ تَنْفِيسًا مِنْ السِّينِ وَإِذَا قُلْت: لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ وَلَا يَقُومُ عَمْرٌو وَلَنْ يَقُومَ كَانَ عَدَمُ قِيَامِ زَيْدٍ فِي الْمَاضِي وَعَدَمُ قِيَامِ عَمْرٍو فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ تَرَتَّبَ الْعَدَمانِ بِسَبَبِ أَنَّ لَنْ وَلَا مَوْضُوعَانِ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَلَمْ وَلَمَّا مَوْضُوعَانِ لِنَفْيِ الْمَاضِي وَمَا وَلَيْسَ مَوْضُوعَانِ لِنَفْيِ الْحَالِ وَلَمَّا كَانَ الْمَاضِي وَالْحَالُ وَالْمُسْتَقْبَلُ مُتَرَتِّبَةً كَانَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى وُقُوعِ الْعَدَمِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا دَالًّا عَلَى التَّرْتِيبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِهِ بَلْ يُسْتَفَادُ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ وَرُبَّمَا تَبَدَّلَتْ بِالنَّقْلِ الْعُرْفِيِّ وَالْعَقْلُ لَا يَقْبَلُ الِاخْتِلَافَ وَلَا التَّبَدُّلَ إذَا تَقَرَّرَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّرْتِيبِ بِالْحَقِيقَةِ الزَّمَانِيَّةِ وَبَيْنَ التَّرْتِيبِ بِالْأَدَوَاتِ اللَّفْظِيَّةِ فَأَذْكُرُ ثَلَاثَ مَسَائِلَ دَالَّةً عَلَى هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَأُوَجِّهُ الصَّوَابَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَنْ وَافَقَ الْقَوَاعِدَ وَمَنْ خَالَفَهَا.

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ وَاتَّفَقَ الْإِمَامَانِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ ثُمَّ أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

وَفِي النَّسَقِ بِالْوَاوِ إشْكَالٌ فَحَصَلَ لَهُ فِيهَا تَوَقُّفٌ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلْ أَلْزَمَ فِي الْوَاوِ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْحَقُّ بِسَبَبِ أَنَّ الزَّمَانَ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فَقَدْ بَانَتْ بِالطَّلْقَةِ الْأُولَى قَبْلَ نُطْقِهِ بِالطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ لِأَجْلِ الْبَيْنُونَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ فِي الْوَاوِ حِينَئِذٍ إشْكَالٌ أَصْلًا بَلْ نَجْزِمُ بِتَقَدُّمِ مَا نَطَقَ بِهِ قَبْلَهَا عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ بَعْدَهَا فَتَبِينُ فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ الْأُولَى الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ دُونَ الْمَعْطُوفَةِ بِالْوَاوِ فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي لَا تَسَعُ مُخَالَفَتُهُ وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْحَابِ إنَّهُ طَلَّقَ بِالْأُولَى ثَلَاثًا ثُمَّ فَسَّرَهُ بَعْدَهُ ذَلِكَ أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَإِنَّ الثَّلَاثَ تُعْتَبَرُ بِاتِّفَاقٍ وَيَلْزَمُكُمْ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَإِنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ تَبِينَ فَلَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا شَيْءٌ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَسْأَلَةِ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَقَوْلُهُمْ نَوَى ثُمَّ فَسَّرَ لَا يَسْتَقِيمُ بَلْ إنْ نَوَى انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ عَلَى لُزُومِ مَا نَوَاهُ فَهَذَا الْمُدْرَكُ بَاطِلٌ قَطْعًا.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِ مَعَ عَدَمِ نِيَّتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَبَاطِلٌ أَيْضًا بِسَبَبِ فَرْقٍ عَظِيمٍ مَأْخُوذٍ مِنْ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ لُغَوِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إذَا لَحِقَ لَفْظًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ صَارَ الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَشَرَةُ مُثُلٍ:

(الْمِثَالُ الْأَوَّلُ) إذَا قَالَ: لَهُ عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا اثْنَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا ثَمَانِيَةٌ مَعَ أَنَّ الْأَقَارِيرَ عِنْدَ الْحُكَّامِ فِي غَايَةِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا النِّيَّاتُ وَلَا الْمَجَازَاتُ وَمَا سَبَّبَهُ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي عَشَرَةٌ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَحِقَهُ قَوْلُهُ إلَّا اثْنَيْنِ وَهُوَ كَلَامٌ لَوْ نَطَقَ بِهِ وَحْدَهُ لَمْ يَسْتَقِلَّ فَيَصِيرُ الْأَوَّلُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَصَارَ الْمَجْمُوعُ إقْرَارًا بِالثَّمَانِيَةِ فَقَطْ وَلَغَا اعْتِبَارُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

التَّقْوَى وَيَحْتَمِلُ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَرْبَابِ عِلْمِ الْبَيَانِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَفْضِيلُهُنَّ عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ وَيَبْدَأُ بِالشَّرْطِ وَيَكُونُ جَوَابُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ دُونَ مَا قَبْلَهُ قِيلَ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَبْلَغُ فِي مَدْحِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ مُتَّقِيَاتٌ وَهُوَ صَحِيحٌ لَوْ أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ لِلْمَدْحِ لَكِنَّهَا لَمْ تَرِدْ لِذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا دَاوَمُهُنَّ عَلَى التَّقْوَى.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَ حَذْفُ جَوَابِ الشَّرْطِ إنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ]

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَ) إذَا لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ مِنْ الْكَلَامِ الْمَنْطُوقِ بِهِ جَوَابًا لِكَوْنِهِ مَاضِيًا مَثَلًا وَالْمَاضِي لَا يُعَلَّقُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا وَالْمَذْكُورُ دَلِيلُهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: ٤] أَيْ وَإِنْ يُكَذِّبُوك فَتَسَلَّ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِك فَتَكْذِيبُ مَنْ قَبْلَهُ سَبَبٌ لِتَسْلِيَتِهِ وَقَائِمٌ مَقَامَهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَ حَمْلِ الْعُمُومِ عَلَى عُمُومِهِ دُونَ سَبَبِهِ]

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَ) الْعِبْرَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فَيَسْتَدِلُّونَ أَبَدًا بِظَاهِرِ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْرِدِ سَبَبِهِ فَفِي الْعَزِيزِ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عِنْدَ حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» مَا نَصُّهُ أَيْ فِي الْقُرْآنِ فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ الِابْتِدَاءُ فِي السَّعْيِ بِالصَّفَا وَذَا وَإِنْ وَرَدَ عَنْ سَبَبٍ لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ اهـ.

قَالَ الْحَنَفِيُّ: قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ فِي السَّعْيِ أَنَبْدَأُ بِالصَّفَا أَوْ بِالْمَرْوَةِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ أَبْدَأُ وَفِي أُخْرَى نَبْدَأُ اهـ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْبُدَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ ثُمَّ بِالْحَمْدِ لَهُ فِي الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ وَإِلَّا كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَوْ فِيمَا يَعُمُّهُمَا فَافْهَمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ السَّبَبُ شَرْطًا خِلَافًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْقَائِلِ بِذَلِكَ الْوُجُوبِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْأَوَّابِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: ٢٥] وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ أَوَّابٍ مَاضِيًا أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَخَصَّصَ بِنَا لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ صَلَاحَنَا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ فِي حَقِّ غَيْرِنَا مِنْ الْأُمَمِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ مِنْكُمْ غَفُورًا إذْ لَا دَلِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ مَا حُذِفَ جَوَابُهُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا وَالتَّقْدِيرُ إنْ تَكُونُوا.

<<  <  ج: ص:  >  >>