للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ)

وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي وَاقِعٌ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ خِطَابَ الْمَجْهُولِ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا تَعَيَّنَ عَلَى الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْخِطَابُ مَعِي وَلَا نَصَّ عَلَيَّ فَلَا أَفْعَلُ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ (الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ إلَى قَوْلِهِ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ) قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ إنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إنْ أَرَادَ بِالْخِطَابِ مَا هُوَ ظَاهِرُهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ بِالْخِطَابِ التَّكْلِيفَ وَالْإِلْزَامَ فَمَا قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِجَمَاعَةِ عَبِيدِهِ: لِيَفْعَلْ أَحَدُكُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَاعِلِ مِنْ قِبَلِي وَلَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمَنْ فَعَلَهُ أَثَبْته وَمَنْ شَارَكَهُ فِيهِ عَاقَبْته وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَاقَبَتْكُمْ أَجْمَعِينَ فَالْخِطَابُ فِي هَذَا الْمِثَالِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْجَمِيعِ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ يُعَيِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ، وَهَكَذَا هُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ وَالتَّكْلِيفُ لِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ وَالسِّرَّ فِيهِ أَنَّ خِطَابَ الْمَجْهُولِ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ لَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ هُنَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ بَعْدُ بِالْخِطَابِ التَّكْلِيفَ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ كَمَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١٠٤] وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: ١٢٢] وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: ١٠٢] إلَى آخِرِهَا.

وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَعَ الْخِطَابُ فِيهَا لِلْجَمِيعِ أَوْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّكْلِيفُ لَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ وَلَا عُلِّقَ بِمُعَيَّنٍ، أَمَّا فِي الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَمُطْلَقًا وَأَمَّا فِي آيَةِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ التَّكْلِيفُ بِإِقَامَتِهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى بَعْضِهِمْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَى الْبَاقِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْحِرَاسَةِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إلَى الْحَارِسِينَ أَوَّلًا وَبِالْحِرَاسَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ أَوَّلًا وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْضَحُ الْآيَاتِ فِي أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَالَةَ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْجَمِيعِ إلَى قِسْمَيْنِ كُلُّ قِسْمٍ يَقُومُ بِوَاجِبٍ يَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْقِسْمِ الْآخَرِ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِقِيَامِهِ فِيهَا بِالْوَاجِبِ الْآخَرِ، وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ يَتَوَجَّهُ التَّكْلِيفُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ إلَى الْجَمِيعِ ثُمَّ يَسْقُطُ عَنْ الْبَعْضِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ لَا دَلِيلَ أَلْبَتَّةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ تَدْعُو إلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَيْهِ إلَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ أَوْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

يَدُلُّ الْتِزَامًا عَلَى الثَّمَنِ الْبَخْسِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الرُّتَبِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ وَثَمَنُ الْمِثْلِ الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَا اللَّفْظُ إذْ كَيْفَ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى مَا لَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَلَا جَرَتْ عَادَةٌ وَلَا عُرْفٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، وَهَلْ يُرِيدُ عَاقِلٌ بَيْعَ مَبِيعِهِ بِالْبَخْسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَى ذَلِكَ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ الْبَخْسُ هُوَ مُطْلَقُ الثَّمَنِ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ مُطْلَقِ الثَّمَنِ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ هُوَ الْبَخْسُ بِعَيْنِهِ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ؟ هَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَا رَيْبَ فِيهِ اهـ. قُلْت: وَحَيْثُ ثَبَتَ بُطْلَانُ هَذَا الْفَرْقِ فَالصَّوَابُ إبْدَالُهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ وَقَاعِدَةِ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْحَالِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: مِنْ غَرِيبِ فُنُونِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْحَالِ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا قَالَ: إنَّ دَمَ الْحَيْضِ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: ١٤٥] فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ حَالِ الدَّمِ.

وَقَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ أَذًى فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَهُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ عَيْنِ الدَّمِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ مَا لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ وَلَمْ نُزَاحَمْ عَلَيْهِ انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ]

(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ)

عَلَى مَذْهَبِ الْأَصْلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ طَلَبَ الْكِفَايَةِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ لَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ مِنْ أَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إذْ لَوْ وَقَعَ لَأَدَّى إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا تَعَيَّنَ عَلَى الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْخِطَابُ مَعِي وَلَا نَصَّ عَلَيَّ فَلَا أَفْعَلُ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ لِتَنْبَعِثَ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ عَنْ الْعِقَابِ، فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَإِنْ كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>